نشرة الأخبار

آخر المواضيع

الأربعاء، 14 نوفمبر 2012

محراب الشرق وسط كنائس القيامة

 
 
نشر بملحق أشرعة في جريدة الوطن
 
 
لقد خانه حصان ذاكرته هذه المرة وجمح به للبعيد ، ربما أصابته هستيريا النساء بالغرور حين اعتقد بأن جميع الإناث موسم ربيعي مختلف عن كل مواسم الفصول فساورته نفسه بأن جميعهن يشبهن بعض في صفة واحدة وهي الوقوع في شباكه والركوع تحت أخمص قدميه ، بعد إجازة حافلة قضاها في السهر بين الغواني والعاهرات وفتيات الليل ، ينتقل بدفتر شيكاته وهو يقهقه بأسنانه الصفراء التي تسللت على جدرانها ألوان الشيشة ، حضر متأخرا إلى قاعة الاجتماعات كعادته كان الجميع ينتظره في تابوت الرتابة على طاولة الاجتماعات المستديرة ، دخل عليهم عابس الوجه مقطب الحاجبين ، جلس كعادته وطلب من مدير مكتبه أن يسطر محضر الجلسة ، كان في كل جلسة هو مركز الدائرة ومحط أنظار الجميع غموضه يجعل المحيطين به لا يفهمون شخصه كانت اسئلته التي يوجهها لهم اسئلة خارج نطاق الذاكرة ، إنه سيناريو من المتاهات والغرابة شخصين على النقيض تماما ، الزنابق الليلية تجعله جسدا متواطئا منغمسا في الملذات عبدا للشهوات ، وشاطئ النهار وطلوع شمسه تجعل منه أسطورة خرافية من المغامرة يلعب بطاولة الزهر يحرك حجر النرد كيف يشاء ، لم يعتد على الدخول في صفقة فيخسرها أبدا ، بدأ يقلب بصره في جميع الاتجاهات ما أن رآها حتى رمقها بعينه مبتسما ابتسامة مذابة جعلته يطمئن بأنها موجودة ، إنها نائلة التي استطاعت أن تأسره وتجعله كالخاتم بإصبعها ، هي من منحته كل شيء رغم ارتباطها بشاب أحبته وأم لخمسة أطفال ، إنه شخص ضعيف الإرادة أمام الأنثى في جميع الأحوال إلا أنه كان كثير الوساوس لا يداهن النساء ولا يبوح لهن بأسراره ، هي فقط من استطاعت فك شفرته الغامضة كانت نائلة تلك بنك من الأسرار الخاص به التي يرميها من قلبه فتحملها عنه لتذهب من خلفه لتبوح بها إلى صاحباتها دون أي تردد ربما حتى أكثر بكثير من معاوية المدير المسؤول عن مكتبه هي تعتبر مستودعا لأسراره ، ولهذا تحديدا اختارها لترافقه المشوار بجميع رحلاته ، إنها حقيبة من الهجرات المتنقلة معه ، ورغم علم الجميع بعلاقتهما الغريبة الغامضة التي يثرثر بها البعض ويتساءل عنها البعض الآخر إلا أن الصمت مطبق على شفاههم جميعا، بدأ في عد الموجودين لحظة أن طلب من مدير مكتبه القيام بتسجيل أسماء من حضروا الاجتماع ، بلحظة قال له مدير مكتبه : هناك بالخارج موظفة أخرى جديدة تنتظر الإذن لها بالدخول وهي أول مرة تستلم العمل فيه لدينا اليوم! فقال له دعها تدخل إنه صباح الأحد وفي شهر نيسان تحديدا لم يستطع أن يمسح هذا اليوم من ذاكرته حين دخلت عليهم قاعة الاجتماع ، لقد ابتلع لسانه الصمت وبقي يجتر الكلمات رغم تظاهره بعدم الاهتمام بها ، عيناها الزرقاء الواسعة وابتسامة شفتيها وأناقة مظهرها بخلاف ما اعتاد عليه ممن تعرف عليهن سابقا ، لقد غيرت بدخولها خارطة الاجتماع وحرارة المكان وبات الجميع ينظر لها في ذهول ما بين الغرابة والإعجاب ، وفي منتصف حديثه سألها عن اسمها ! وما أن تكلمت إلا وأصبحت كمن يشدو بأجمل صوت ما بين سحر الشرق وروائع الغرب ، لحظة أن نطقت لتعلن وتفصح عن اسمها فقالت : سان مارينو بدأ على وجه الجميع الغرابة وعلامات التعجب ، أدمت إجابتها قلبه رغم تظاهره بالحزم والقوة حين قال لها : لم اسألك من أي مكان أنت أتيتي؟ لقد سألتك عن اسمك أجيبي على قدر السؤال . بقيت هادئة الأنفاس واثقة النفس فقالت له : لقد قلت لك سان مارينو إن اسمي سان مارينو هو ذا اسمي . لقد أصابه اسمها بهلوسة فحديثها كان مبتكرا ، وهيئتها تدل على أنها من بنات العائلات ، ثقافتها جعلتها ذات كبرياء لقد تبعثرت كل الأبجدية أمامه حين أتى ليلملم اسمها من بين جميع الأسماء ، ها هو ينهي الاجتماع هذه المرة سريعا . لقد سكن اسمها بين ضلوعه ، دخل عليه مدير مكتبه وهو يقلب في الصور سأله عن وجه تناساه منذ زمن في ظل شتاء قارس من شهور نيسان وهو يشير إلى ألبوم الصور ، أطرق مدير مكتبه رأسه حين قال : إن من أنجبت ماتت سيدي ، فقال له : إذا لماذا يسكن الخوف ضلوعي يا معاوية . رفع سماعة الهاتف وطلب من منسقته بأن تنادي له سان مارينو في الحال حين قال لمعاوية مدير مكتبه دعنا وحدنا من فضلك وما أن جلست بالكرسي الذي يقابله حتى باتت أنفاسه ثائرة حتى الغليان ظل ينظر إليها طويلا سألته : ما هذه الأوراق المتناثرة فوق طاولتك ؟ نظر إليها وهو يقول : إن الأوراق هذه تعتبر عطري المفضل ، التفتت بجانبها فوجدت ورقة بلون مختلف ولغة غريبة وعندما اتت لتتناولها ، قام من فوره بإخفائها كمن يخفي ممنوعات تم تهريبها عن أعين شرطة الجمارك ، نظرت إليه وكأنها على قارعة الوهم مستعيدة شيئا من ضبابية الذكريات فبداخل حلبة الصمت تم الإعلان عن ولادتها ومع جو المساء ظلت تبحث عن ذاتها ، تحاول أن تستعيد ما تبقى لها من أرجوحة الحياة مع زحمة الأنشطة الصيفية ، لقد أدمنت عشق المدرسة السريالية منذ أن كانت بفرنسا ، إنها تشتهي الكتابة على حس وطنها الأم بلحظة اشتياق، وترسم لوحات غامضة معقدة بريشة الرسم وأمشاج الألوان وكأنها ممسكة بمهماز قديم وهي كالطفلة الناشز التي خرجت بسبب تصادم والديها عن طابور المدرسة تغرد خارج سرب المنزل تبحث لها عن قلادة لتحتضنها في منتجع دزني لاند، إن أرصفة باريس لم تكفيها لتعانق هالات أراجيح الأطفال ، كم من المرات تناست عن قصد دفتر الإملاء وأحضرت بدلا عنه كراس الرسم ، ومع ذلك فهي قاموس مترجم من اللغات ، إنها تجيد الفرنسية والألمانية واليونانية والإنجليزية مع لغتها الأم اللغة العربية. ولدت سان مارينو من أم فرنسية ومن والد خليجي المنبت يستحم في آبار من النفط ، جدتها لوالدتها كانت روسية ، من يرى سان مارينو يلمح الشموخ مختلطا بزرقة عينيها ومبسم شفتيها رغم انها تجر عربات القهر خلفها في لحظة هي أشبه بلحظات العتمة ساعة أن ترك فيها والدها والدتها غاضبا أثناء ولادتها عندماعلم بأن المولود القادم إليه هي أنثى وليست ذكرا ، فمن سيرث عنه جميع تلك الملايين من نفط صحراء الخليج التي يمتلكها، لقد شرع لنفسه غابة من فلسفة غربية أفقها ضيق يشتق من خلالها دينا آخر ليبرر أفعاله تلك حين اعتبر زوجته نزوة فرنسية وظل يلجم جماح غيظه منتقلا من حانة إلى أخرى محاولا أن يثأر لنفسه من كل أنثى يراها سهلة المنال تقف أمامه فهي تذكره بالعار الذي تركه في أفق قارة أخرى ، لقد خرج من هرطقات عاشق مجرد من عواطفه ليلبس جلبابا من جلابيب إبليس يطوف بها عبر صفحات من المدارات تعبر به فضاء الشرق ومع مرور السنين تناسى كل شيء حين سقطت ذاكرته بين وحل الرغبة ولذة الشهوات ، ها هو الآن يستعيد ذاكرته عندما لمح وجه سان مارينو ذلك الوجه الذي ذكره بالفتاة الباريسية الشقراء ذات العيون الزرق ، صرخ فجأة لمدير مكتبه معاوية يريد الذهاب إلى حانة عكرمة في الحال، ولكن معاوية أجابه حانة عكرمة ليليلة ونحن في وضح النهار وبلحظة قاطعه فيها ليفتحها الآن معاوية ويأخذ ما يشاء من النقود وإلا ما فائدتك كمديرا لمكتبي0 في لحظته الثائرة تلك نطقت سان مارينو بصوت أشبه بهدوء الماء على جداول السواقي المرتطم في الصخر عندما قالت : لن يستطيع فتحها سيدي ابدا ! ولو أغرقته بملايينك ، نظر إليها متعجبا وهو يقف بجانب مدير مكتبه فأردفت قائلة له مرة أخرى: لقد ماتت أمه وهي تحتسي الخمر على محراب الغانيات بمنتصف الليل ، بينما هو ينظر إليها ثملا مرتعشا بسكره وقد غاب العقل عنه وهشمته المصيبه فربط عنقه معلقا نفسه على مروحة السقف ليفاجئ الجميع بموته في لحظة انشغال الجميع بموت والدته فماتت الأم بالأمس ومات ولدها البارحة إنها تلك الحانة نفسها التي التقيت فيها مع والدتي وما أشبه الليل بالبارحة بحانة عكرمة، وما هي سوى لحظات حتى خرجتما متزوجين لتعبثا سويا بالجوهر المكنون في أحشائها وأنتم على سواقي الخمارة بمنتصف ليالي تشرين ويونيو وتموز وحزيران متناسين طقوس العبادة كما تلعب الآن بزهر النرد ، لقد سقط من شدة صدمته على أريكة مكتبه وأستفرغ كل ما في معدته ، وهو ينظر إلى مدير مكتبه معاوية تارة يبكي وتارة يضحك وهو يقول : إن الحماقات لفت لي أعواد الخطيئة على صندوق مغلف يأتيني على مر السنين ، نظر إليها وعيناها الزرقاوان غارقتين في بحر من الدمع ، شعر بأن جسمه كحقيبة أسفار ، وأن الخطيئة تقربه من زمن الكهولة ليبني شجيرات الصمت على زمن الندم ، إن أرشيف الزمن الذي عاشه بحياته أكبر بكثير عن أرشيف أوراق شركاته التي يملكها ، كان يشعر سابقا بأن عمره كحديقة أطفال لن تتغير ملامحه ، أما الآن يشعر بأن جسمه تقيده الحضارة وتكفنه مراسم حانة عكرمة التي أغوتها الملذات نظر إلى سان مارينو يحاول أن يقف على ساقيه فخانته ركبتاه فسقط على الأريكة وهو يقول : لقد كنت أغني خارج السرب في أوقات تناسيت فيها بأن لي مهرة عربية مزجت بأمشاج الشرق والغرب معا لأستمتع بها وهي تكبر أمام ناظري ، والآن وقد فقأت عيني بإصبعي لم يبق مني غير قطاف خريف يجر ثوب الخزي أمام ابنته وهو يقترب من قبور الموتى رويدا رويدا ، لقد أيقظت أنا بيوم ما كل تضاريس العالم أنقب فيها عن آبار نفط أملكها وفي كل مرة أنقب فيها عن بئر أسجل على خارطة التاريخ اسمي ، يا لكي من أنثى خرجتي فيها بلحظة زمن الثورة لتعلني فيها تاريخ وفاتي ، لقد قصمتي ظهر البعير فخر راكعا ، لم أكن أظن يا معاوية بأن الإناث لهن من القوة ما يعجز عن قصفه صاروخ أو ديناميت ، أي رجل كنت أنا الذي أعتد برجولتي لتأتيني ابنتي بعد سنوات طوال لتحرق ما بقى لي من مراجل ، وبلحظة أجابته هل سألت نفسك كيف أعيش في عالم غربي من صلب رجل شرقي ؟
ما هو ديني ؟ كيف هي تربيتي ؟ ما هو طعامي وشرابي ؟ كيف ألبس؟ أو كيف أعيش بين خلاخل العادات والتقاليد وجلاجل القيم والدين ؟ هل صلاتي بكنيسة أم مسجد ؟ أم عيدي هو أشبه بتراتيل عيد القيامة على تلال صليب العذراء ؟ أم برأس سنة قبطية تحمل إكليل الشهادة في الكتاب المقدس وأرتل فيها إنجيل القديس يوحنا يلف حول عنقي الصليب ودمائي عربية مسلمة لقد اهتزت من تحت أقدامه المثقلة الأرض لم يجرؤ أن ينظر لها وهو يشعر بأن دمه الزاحف بشرايينها قد أراقه لسنين طويلة كاد يود أن يصرخ لكل عربي على وجه البسيطة بحنجرة أثقلتها الأنانية وذبحها الندم قائلا : حذاري من لبس ثوب مختلف عن أثوابكم وزوجة دمها مختلف عن دمائكم وترابها يختلف عن طهر أرضكم فيلبسكم الندم حتى أخمص أقدامكم نظر إلى مدير مكتبه قائلا : وتقول لي يا معاوية " إن من أنجبت ماتت سيدي ، الم اقل لك : إذا لماذا يسكن الخوف ضلوعي ".
السهاد البوسعيدية