كانت بين حناياه إستفهامات عديدة تتزايد حدتها على وتر الصباح وهو ممسكا بفنجان
قهوته يقرأ الجريدة ،لا يزال صوت الرصاص وضجيج الدبابات مدوياً في أذنيه يشتق من عناوين الجريدة ذكريات زمن غابر لم يكن
بطياته من خاسر إلا هو ووطنه ، إنها حرب
العصابات التي تحدد هي بنفسها مكانها
وزمانها حسب ما تريد ، فتأثيرها موجع للخصم ، لم يستطع أن ينسى ليلته تلك متسلحا
فيها بذلك السلاح الأبيض الذي حمله ليوجه
ضربته السريعه لقوات الدعم اللوجستي ، لم يكن يعلم بأنه سيسقط في بحر عينيها قبل
سقوطه في وحل التفاصيل التقليدية التافهة ،لقد إختار المباغته وخصمه غارق في
النعاس ليشعر بأن بلاد تنقاد إليه بأسرها لتحييه على جرأته وشجاعته ، تسلل وشوه كل شيء أمامه حتى الكتب القابعة
بالمكتبات أراق عليها الدماء ، إنها ذكرى مصطبة من التاريخ ، لقد أخذ عهدا على
يديه وقدميه بأن تدمر أشلاء المعالم وتقطعها إربا ،إن أشد ما يؤلم حين ترى أحلام
الطفولة البريئة وقد مزجت برائحة صفائح
الدم المراقة على تراب الأرض ، طوفان من جثث وأشلاء على ردهات الموت تعلن لفظ
أنفاسها ، بدأت أصوات تتعالى ، ورؤوس تتطاير مع حصاد الأعناق ، عمليات من الإغتيال
والخطف ، إن مسرح عملياتهم قام بتزوير جميع الوثائق التي تسهل عليهم مهام مختلفة لجرائم
يقومون بها ، أربعة عشر يوما بلياليها وهو يقاوم المد الجماهيري
العارم ، كان يقتل كل أنثى تحاول مقاومته ، وكان يأسر كل خائفة قابعة تحت عباءة
الصمت ، كل واحدة سيقت إليه كان جسدها يرتعش بين يديه والدماليج في عضدها تتحول إلى
قيد من حديد على رماد جارية سيقت
وسط متاهات الزحام دون أن يشعر بإختفائها أحد ، إن جريان أحدهم في معركة كهذه ما هو سوى شبح
خاسر مهما بلغت مكاسبه ، لم يكن يعلم أن للوطن قيمة وقيمته في ثروته من البشر التي
حصدها بخناجر مسمومة ،متخذا من نفسه فيدل اليخاندروكاسترو الذي اطاح فولجنسيو باتيستا
زالديفار ، تبا له ومن معه حين يدوس على ثرى وطن تربى وعاش فيه ، لم يتبقى سوى قصر
واحد فقط عجز عن إقتحامه فهو يحتاج لإستراتيجية مدروسة قبل المباغته فعمد بدهائه
على إقامة علاقة طيبة بالمدنيين داخل هذا القصر لتأمين دخولهم إلى هناك ، لا يزال
تائها حتى يتمكن من الدخول ، إنه يرى نفسه هاربا من كل شيء في زمانه سوى من أزمنة
الحقد ، لقد حانت سويعات دخوله لذلك القصر على يد جارية حسناء أغرقتها سهام عينيه
دون أن تعلم أو تترجم ما تخفيه تلك العينان الغارقتان في أنهار من الدم ، سهلت له
الدخول للقصر عبر ممر مائي ، لم يكن يبصر من قبل حقيقته ، وما أن دخل مباغتا حتى
قام بقتل وذبح كل من في القصر فبقيت غرفة محكمة الإغلاق خالية من كل شيء سوى من
رائحة زهر الليلك يعطر ذلك الممر المؤدي إلى أبواب تلك الغرفة المغلقة ، حين طلب
من الجارية فتحه ، وما أن تم فتح الباب حتى
قام بطعن تلك الجارية بخنجره
فأرداها صريعة تحت قدميها بعد أن لعق بلسانه الدم العالق بشفرة الخنجر ، في حين
كانت هي تنظر إليه وانهار الدمع تتساقط كاللآلئ من عينيها ، نظر إليها وعينيه تحولت
إلى فضاءات سحيقة ، كانت دهشته فوق المقدره ، بينما كانت هي تتخيل حينها ظلام دامس
لحظة ما أن يجهز عليها بخنجره كجاريتها فتحمل إلى المقبره ، فتوضع بداخلها ليهال
عليها التراب ، بقي شارد الفكر محدقا في صفاء عينيها وبريق وجنتيها ، وكأن شيئا ما
يسحبها نحو وقع قدميها ، نظرت إليه كشمعة تلهبها الريح تجتاحها المآسي على فقدان تلك الجثث التي تهاوت بين المذبحة ، لم
تستطع أن تعبر عن حزن سكن بقلبها على فقد عائلة كانت لها كل شيء وأصبحت هي جسد
يتهاوى ليس له من ينقذه ، كان حائرا ما
بين قتلها وعينيها ، بلحظة شعر بأنه مشتركا في ظمأ روحه ، دون أن يرتوي من كؤوس الحب وينابيع الحياة ، كيف يجد وقتا للمتعه وهو
لا يجد لحظة فراغ بحياته ليسلك طريق الأحبه ويجرب درب المحبة .
تمنى حينها لو أن الزمن يقف على تلك الدقائق
التي يراها فيها ، ولكنه شعر بأنهما كخطين متوازيان ليس بهما ما يجعلهما متقاربان
فيلتقيان ، أو متنافرين فيختلفان ، تمنى أن يسمع همس صوتها بلحظته تلك ، ولكنه صعق
عندما إكتشف بأنها دون خرساء بلى صوت ، لقد قطعت أحبالها الصوتية حين شربت ماء
مغليا دون أن تدرك ذلك في طفولتها التي لم تتجاوز من قبل سنتان ونصف من عمرها ،
فجعلت من أميرة حرة تعتزل الناس تقبع بين
زوايا جدران غرفتها في هدوء وصمت . ورغم كل تلك العواصف التي أشعلت نارا وخلفت ورائها رمادا على تلك المدينة التي كانت تنعم
بالراحة والهدوء إلا أن حرب العصابات قد أباد هدوئها وأطفئ بريقها ولم تعد كما
كانت ، اما هي فقد قادها أسيرة حتى منزله دون أن يسمح لأي كائن أن يقترب منها ، كان آخر فصل من فصول الحرب على أعتاب قدميها ،
مرت ليال طوال يطعمها العسل والزنجبيل يعيش
أملا واحداً فقط هو أن يرجع لها صوتها المفقود فجمالها أشبه بحورية ليس لها وجود
قوام جسدها وطول شعرها ولون عينيها وحمرة وجنتيها جعله يهيم بها مجافيا الرقاد يعد
نجوم السماء مشتاقا أن يسمع منها لو كلمة واحدة تعيد له الأمل أن يعيش الحب قبل أن
تلفظه حرب العصابات على مقبرة الموت ، ذلك هو الإبتلاء الذي أبتلي به ليعيش العذاب كما عذب آخرون من
أصناف البشر وأجناسهم تمنى في حينه لو كان
قتله حرب العصابات قبل أن يغرق في سحر جاذبيتها وجمال عينيها ، لقد تورط في حبها ،
بدأ يشعر بأن الحياة ما هي سوى دمية ترقص
لسويعات على مقبرة جثث حنطها الموت كان قد أكل دود الأرض منها حتى شبع ، وهؤلاء بنو
البشر لا يزالون جائعون لم يصلوا حتى حد الشبع ، حاول أن يقاوم تلك الفاتنة التي
تعود ان يراها أمامه كل يوم يطعمها السمن والعسل وهو غارق في جاذبيتها متأملا مبسم
شفتيها ينتابها الألم الذي سكن روحها وهي
تصرخ متوجعة بخاصرة الليل الطويل ، وبلحظة شبت نار الغواية في دمه الملتهب محاولا
تسلل خط الأنوثة بينها وبينه ، وعلى اعتاب خط المسافة التي تمنحه الأمل ليمضي نحو
أحلامه ، بقيت هي ترتعد خوفا ممسكة خنجره مغطيا وجنتيها دمعا منكفئا من قلبها بسبب
جمرات من الحزن وهي تبدو كنجمة أطفئها بريقها الم العذاب التي سجنت فيه ، إنها تعي وتشعر جيدا بأن جسدها أطهر من ان
تمتزج معه جسد بجسد لتفوح منه رائحة الدماء العالقة بجسمه العاري من الأخلاق
والفضيلة ، كلما إقترب منها خطوة شعرت بأنها تصارع هذيان أنفاسها على خط ساخن ، لا يزال دهر من الحزن بقلبها لم يستطع أن
يغيره شيء ، ذكريات من حياتها ضاعت لم تستطع حتى أن تحصي عددها ، لا يزال ما حدث لها
حبيسا في ذاكرتها يقض أجفان مضجعها ، ومع كل هذا فهو لا يزال يطال به الأمد أن
يسكن بين قلبها ملتحفا بأهداب عينيها ممسكا بضلوعها التي كسرت مع فقد كل حبيب من أفراد أسرتها ،إن الأمل
بالنسبة له كان كبيرا ، وهي بالنسبة لها كل يوم تعيشه وسط جدار يسكن فيه معها
يساوي دهرا من الألم ، وبلحظة كاد الزمن
أن يعلن كلمته الأخيرة ليقترب منها غرست الخنجر بطعنة في كبدها ، حتى هوى بها
الألم على ركبتيها تعيش مشاهد رجعت فيها
ذاكرتها للوراء لتتذكر قصرها الذي سكنته بأحضان والديها فسمعت للحظة فقط ضحك
إخوتها شاهدها لأول مرة تبتسم قبل الرحيل ليزداد عذابه سنين ، فحملت نبض قلبها بين
اكف الرياح ، بسبب لعبة حرب العصابات تلك، فبقي هو جثة تتحرك عذابا دون روح ، كلما
حاول أن يتخلص فيرمي ألمه يفتح الجرح من جديد فيزداد الألم شدة ، وبقيت ارض كان
يقطنها بأمان تعيش حالة فوضى بعد أن كانت هانئة مستقرة يكاد لا يجد كسرة خبز
يأكلها بعض الأحيان ، وبعد ان كان رجل يدعي الشجاعة والثبات لا ينحني امام الفصول
ولا يهتز أمام جبل ، بقي حبها يعصف به سنين طوال ، يتمنى رؤيتها حتى في المنام ،
ولكنه بقي طافحا في عزلته بين أنياب الظلام تلك يزداد لهيبا من جمر العذاب ، وبعد
أن كان يخوض عمرا من حرب العصابات في حياته لا يهاب موتا ، ضعف أمام حرب الحب فلم
يعد قلبه يستطيع أن يبصر أحلامه فبقي هو يهذي على خط ساخن حين يراها تتهاوى أمامه
لحظة أن طعنت نفسها بخنجر أرداها تصارع الموت لتصعد روحها إلى السماء ، فربحت هي
القتال أما هو فقد هزمته الحرب بلحظة ضعف لم
يتمالك فيها قلبه فطار معها عقله حين لم
يستطع أن يقاوم سحر عينيها ، على الرغم من انه جعل قلبه لها راية يحملها حيث يشاء
، وبقي فوق كل ذلك مرارة الأسى تحمله تحمله نحو الذبول حين اعلنت الرحيل وغادرت
روحها الحياة ولم يعترف قلبه بإمرأة غيرها
لقد فقد متعة الحياة وبهجتها وفقد معها أمن وطنه
وإستقراره فأعلنها صرخة مدوية إنطلقت كرصاص ثائر من بين شفتيه وهو ممسكا بجريدتة وفنجان قهوتة تلك : " إن
حرب العصابات ما هي سوى وهم للحمقى يقظ
مضجعهم فالفرد فيهم يتفادى الالتحام
في معركة مواجهة مع الجيوش التقليدية لعدم تكافؤ الفرص "
وأخيرا أيقنت بأن ما أعيشه بلحظتي هذه ما هو سوى شطحات خيال سحبني
بعيدا جدا لأعود لواقعي كما هو الآن حين
رأيت نفسي وأنا ممسكا بيدي كتابا إبتدعه ارنستو "تشي"
جيفارا تحت عنوان حرب العصابات " حمدت الله تعالى بأن ما حدث ما هو إلا وحي
خيال وليس واقع 0 وقلت كما قال غيري : مهما يأكل الإنسان لن يأكل بأكثر من معدة
واحدة، ومهما يلبس لن يلبس على غير جسد واحد، ومهما ينتقل لن يستطيع أن يحل في
مكانين. لكنه بزاد الفكر يستطيع أن يجمع الحياة في عمر واحد
فتذكرت جملة شهيرة كان العقاد قائلها " نحن
لا نحب حين نختار... ولا نختار حين نحب... إننا مع القضاء والقدر حين نولد، وحين
نحب، وحين نموت! " ومن هذا المنطلق يبقى
حب الله ورسوله وكذا السلطان والوطن أسمى وأجمل
من كل عبارات الحب .
بقلم : السهاد البوسعيدي