نشرة الأخبار

آخر المواضيع

الخميس، 17 نوفمبر 2011

بقلمي : حينما تغرب الشمس


عندما نحب الحياة ونتعلق بها ونسمو بأرواحنا عليها نعزف قيثارة الخلود لا نعرف خلالها ما يخفيه لنا القدر وجريان السنون وعقارب الساعة وملامح الزمن ، كانت كشجرة مثمرة تتفيأ ظلال الحياة وتعطر الدنيا كأزهار الربيع عندما يفوح عطرها ، لم تكن تعلم ما كان يخفيه الزمن لها ، منار تلك البنت الوديعة بالأمس كانت طفلة تتقافز هنا وهناك تجري خلف القطط والأغنام بين أزقة ضيقة في بلدة صغيرة ، لا يوجد فيها من الحياة سوى البساطة وحب الناس ، دائما تحب ان تذهب إلى البساتين لترى الفلاحين وهم يزرعون حقول المزارع بأشجار غضة ترقب نموها ويسقيها الفلاح بعرقه ، كانت تجري ومن سرعة جريانها تلهث تقف تخلع نعليها وتدسهما تحت إبطيها ، ذات مرة كانت تقصد مزرعة والدها حينما شاهدت حمامة صغيرة بيضاء فوق أحد شباك المزارع القريبة جرت منار خلف تلك الحمامة كان خيالها يحدثها بأنها تستطيع الإمساك بها جرت وجرت وجرت وتقافزت من فلج إلى فلج ومن ينبوع إلى ينبوع تحت ظلال الشجر تجري ورائها ، فقدت الأمل بعد أن ضيعتها ، أحست منار بتعب شديد وجلست على قنطرة فلج تشرب الماء كانت ظفائر شعرها تتخلل في الفلج وتخرج رطبة مبللة بالماء وكانت في مفرق شعرها تلبس دينارا من الفضة أثناء جريانها يحدث اصواتا ، واصلت منار طريقها وهي تمشي رأت كلبا وكادت تموت رعبا من نباح الكلاب وأشكالهم ركضت دون وعي وبلا شعور حتى وصلت أكبر مزرعة غناء، الناظر لها يراها جنة الله في أرضه ، انها مزرعة والدها الذي يبيع الثمر برخص التراب دون أن يعي قيمة الأرض او التجارة ، تعثرت منار على صخرة بالمزرعة فهي كانت تجري دون إحساس لم تكن ترى سوى صورة الكلب عالقة في أذهانها ونباحه رغم أنه لم يواصل النباح ولا الجري خلفها فسقطت حتى سال الدم من قدمها اليمنى ، رأها والدها على هذه الحال ، وأحضر لها ريحانة خضراء بعد أن سحقها براحة كفيه ووضعها على الجرح ، كانت منار حياة والدها وروحه ، لم يرى من الدنيا سواها رغم أنه له من الذكور سبعة ولكن منار هي حبيبة ابيها والمقربة من روحه ، نظرت منار لوالدها وهو يدعك لها قدمها ويضع عليها الريحان وهي تبتسم ببراءة الطفلة وفي نفس الوقت الجرح عميق يؤلمها ، مسح والدها على شعرها وضمها إلى أحضانه وطمئنها بأنه سيبرد ويلتئم ، كان اثناء ذلك الوقت والدها يبدا بالتجارة فكان يحصد حصاد المزرعة مع أبنائه وينزله للمدينة فيبيعه ، وبدات الأموال تجري في يد والد منار حتى بنى بيتا جميلا صغيرا لعائلته في القرية، وسكان القرية ببساطتهم ينظرون له وكأنه قصر ملك ، حتى اصبح إسم والد منار يكنى بالشيخ ، فما كان أن يمر من بينهم إلا وينادى بالشيخ حمد قادم والشيخ حمد ذاهب ، وهكذا تزداد التجارة لديه فكان ربع ماله يزكيه والباقي يدخره والأموال تكثر فيها البركة ، وفجاة قال اولاد الشيخ حمد لوالدهم نحن أبناء شيخ واغنى اغنياء البلدة وآن الأوان لن ندخل المدارس يا والدنا ونتعلم ، نظر الشيخ حمد نظرة حيرة وأخذ يتلمس مسبحته ويصلح من عمامته وخلع نظارته التي يلبسها وأبتسم ، إقترب من أصغر ابنائه وطبطب على كتفه وقال : لا بأس سأرسلكم للمدارس المدينة ولكن بشرط ، فرح الأولاد وابتسموا لأن والدهم وافق على طلبهم وقال : ستاخذون منار معكم هي ايضا للمدرسة ، تحت هذا الشرطوافق الأبناء ، جهز الولاد انفسهم للذهاب للمدينة وكانت منار من بينهم وقد أرسل والدها خادمته معها ، نظر الوالد لمنار وشاهد إبتسامتها البريئة بعد أن قبلت يده ورائحة الزعفران تتطاير شذاها من ملابسها كانت ترتدي فستان طويل ذات لون زهري والدينار على مفرق رأسها ، ضمها والدها إلى صدره وقبلها في جبهتها وانصرف الجميع في سيارة مفتوحه كان لا يركبها في تلك الفترة سوى المقتدرون ،تحركت السيارة فلوحت منار بيدها تسلم على والدها والهواء يداعب خصلات شعرها المنسدل على جبينها ، مرت السنون وتعلم البناء وكبرت منار واصبح والدها يمتلك مزارعا كثيرة في بلدته والبلدان المجاورة وعمل بالتجارة في المحاصيل الزراعية ، وكان يقوم بتشغيل شباب القرى ليستطيعوا تحسين معيشتهم ، تأقلمت منار على جو المدينة ، والتحقت بكلية الطب وعرف عنها الأدب وحسن الخلق وجمالها الوقاد الذي يأسر القلوب ويفتن الأنظار فلم تعد تلك الفتاة صاحبة الدينار الذي ينسدل على جبينها فقد كانت متحجبة طويلة القامة زرقاء العينان وكان زملائها ينادونها سنو وايت ، كان الجميع معجب بجمال أنفها وكانها الخنساء في طلتها وبهائها ، وكانت مزيلة العقبات ومذللة الصعاب لزملائها في حلهم للواجبات والعمل الميداني، خرجت منار للتدريب بالمستشفى وفجاة راته شاحب الوجه اصفر اللون ، ضعيف هزيل ،كانت الكحة لا تبارحه وكانت عيناه من كثرة الترجيع واغرتان إقتربت منه لتقيس حرارته فوجدت الحرارة عالية رغم العرق الذي يبلل شعره وزوايا من جسمه ، عكفت على دراسة حالته فتبين انه منذ سنتان يعاني من ألم في الكبد وقد تدهورت حالته الآن منذ ستة أشهر، كانت منار تذهب لقريتها نهاية كل اسبوع ولكن هذه المرة تأخرت فأصبحت مهتمة بتشخيص حالة مريضها ، عكفت على دراسة حلته وتبين لها أنه يعاني من إلتهاب كبد وبائي ، كانت بعد ان تنتهي من مناوبتها بالمستشفى تجلس بجانبه تذاكر دروسها وتقرا له القصص ، تعلق بها كثيرا ، وشعرت نحوه بشعور غريب لا يوصف ، حتى صارحها بحبه بعد ان احس بتحسن ، كان المستشفى خلال ستة اشهر وكانه سجن يتمنى ان تنكسر قضبانه وعندما جأت منار لديه شعر بأنه قصر لا يود الخروج منه ، وعندما خرج ظلا يلتقيان في مطعم صغير يتناولا يوميا وقبل ذهابهم للجامعة وجبة اففطار هناك ، قالت له سأذهب إلى قريتي لأرى اهلي بالعطلة نظر إليها وتضم يدها وقال لها سافتقدك ، ذهبت منار للقرية وكانها لم ترها منذ مدة طويلة أخذت تتجول بين أغصان الشجر وتشم رائحة التربة المختلطة بالماء من قنوات الفلج، وأصوات العصافير وحفيف الشجر يطربها كان الجو غائما وباردا في نفس الوقت ، شعرت منار بزغللة في عينيها افقدتها توازن جسمها فسقطت على الأرض ، وعندما افاقت وجدت نفسها بالمستشفى ، مرت اياما ومنار تعاني من إعياء وحمى وكان والدها يسهر بجانبها لا ينام ليله ولا يعرف نهاره خوفا عليها ، وكان حبيبها كل يوم يأتي لمطعم المدين وينتظرها سأل عنها بالجامعة فقيل له لها فترة طويلة وهي متغيبة لم تحضر ، ظن انها قد نسيته ولم تعد تذكره، ظل حزينا قلقا ومتوترا وحالة منار تزداد سوء وهو لم يستطع نسيان حبها فقد انقذته من موت محقق بعد ان قال له الأطباء حياتك ميؤس منها وكان يصارع الموت ، نظر إلى قرص الشمس وهي تختفي خلف الأفق ويقول هكذا إختفت منار عن عالمي ولم اعد أسمع عنها شيئا ،وفجاة شعرت منار بان ركبتيها لم تقوى على الحراك وان شفتيها بدات بالإزرقاق ، طلب والدها الفحوصات الطبية فسأله الطبيب، كيف كانت طفولة إبنتك ، قال كانت بريئة كوردة متفتحة كطائر مغرد يشدو بالحرية ، قال له هل وقعت يوما من مكان مرتفع حاول أن تتذكر ، قال له والدها لا، قال إن إبنتك بساقها الأيمن دبوس وقد إحترق العصب وتمكن من عضلة قلبها ، وسمم دمها فأصبح الدم ملوثا وقد اصيبت بسرطان الدم وهي في آخر مرحلة من حياتها ، نزل الخبر على والدها كالصاعقة ، كيف ذلك تذكر سقوطها وقع الريحان المسحوق والدم الذي خالطه التراب وإبتسامتها البريئة ، ذهب حبيبها للقرية ليسأل عنها فأخبر انها نائمة في المستشفى وان حالتها سيئة ، لم يستطع ن يتماسك فذهب مسرعا لها ومع كل خطوة يجري بها بقدميه،كانت هي قدميها تجري خطوة لتلفظ أنفاسها الأخيرة وما أن قد وصل إلى سريرها حتى فاضت روحها إلى بارئها ، فذهل مما يجري فقد توفيت بنفس السرير والغرفة التي كان ينام بداخلها ، وانقذته من موت محقق ، شعر حينها بأن الحياة لا شيء ، فقال
:" عندما تغرب الشمس تغرب الأنفاس وتصير الروح إلى زوال ، هكذا كانت حبيبتي وهكذا المئآل ".




بقلمي : السهاد