الرقص على جثث الأموات

بات يتقلب على فراشه بعد عناء سهرة طويلة تفوح رائحتها نبيذا على صدر
أنثى دنستها الرذيلة بات يفكر عما فعله في ليلته حين القى احدهم عود السيجار في كأسه
ونفث الدخان بوجه حتى كادت رئته تتمزق ، شعر لحظتها بأنهم أحياء دنستهم الخطايا والتحفو
بغطاء الرذيلة فأصبحوا عبيد الشهوات على أجساد الغانيات حين افاق على عجز شديد بسبب
قدرته التي تخونه ، بات حتى فجره يتسرب تحت خباء ليلة تفوح منها رائحة عفنة شبيهة بتلك
الرائحة المنبعثة من جثث الموتى حين تترك فترة لا يعرف عنها احد دون ان تحظى بكرامة
الميت ودفنه ، في ليلته تلك كان أشأم من اي وقت مضى ، بعد ان كان يعيش عيشة البسطاء
أحلامها تحتضن روعة الشفق وقت الغروب ، ليلته كان يوصلها بنهاره يرفع فيها أذانه معلنا
اوقات صلاته حتى يكاد من صوته يسجد الشجر ويوقظ الحجر وينهض ساكني القرية ، حين ماتت
امه شعر بأنه كبر وشاخ فقد كانت هي كل شيء بالنسبة له الأب والأم والأخت والحضن الدافئ
فأصبح اشد حزنا من الماء حين يتحول إلى مستنقع من الطحالب داهمته الوحدة فعاش مزدحما
بملايين الأفكار ، شعر بأنه لم يبقى له من شظف الوقت سوى غيمات يلبسها الحزن على طوارق
ونكبات الحياة ، لم يكن له صديق ولا صاحب سوى عود السيجار متنفسا يحرق دورته الدموية
دون ان يدري ، وفنجان القهوة الذي ادمن رائحته وجعله يكثر من إشتهاء السهر ، حتى تحول
جثه على طرف نعش يلتهم اللحم دون شبع في مستنقعات الحانات والأزقة الضيقة ، فينهض بعدها
رجلا كسيحا تحت بساط الفقر ومخدة الأنيميا لا صراط ولا مستقيم ، ولحظة خروجه من حانات
الفجور عاش مسرطن الدم خاسر الحياة يتعثر الخطى مارا بقبور الأموات حتى تكاد منه القبور
تطلق صرخاتها ، وتحت وطأة أنين العجائز يسترجع ادق تفاصيل حياته ، ومن خلف ظهره بقايا
جراح تدمي صدره ، حاول ان يجد من تشبه أمه وتذكره بها وبداخله شيء ما يناديه بأن هذا
محال ، فمشى محاولا مسح جراحه في طريق مليء بالتناقضات فجميع النساء الذي تعرف عليهن
سابقا ما هن سوى محض صدفة تستحق كل واحدة منهن سياط الجلاد تحت رمال الشمس الحارقة
حتى تموت وتدفن هناك ، جميعهن ماهن سوى جسرا يعبرن به من خلال اقنعتهن الزائفة سرير
العشق ، جميع مغامراته مع صاحباته تشبه العمل الروائي يستحق الإخراج ، لقد عرف ان الحب
ما هو سوى صندوقا مليئا بالعجائب والأسرار مخبئ في صدر حواء حين تلتهم السيجار المشتعل
وتطفئه تغير التاريخ في اقل من دقيقتين ، فشلت جميع محاولاته في العثور على إمرأة فاضلة
في قرن عشريني كأمه من هي تلك التي تقبل به وتحتمل طيشه كما احتملت أمه أباه ؟ فهو
كموج بحر هائج حين يثور مائه في مد وجزر متحول متقلب مليء بالتناقضات ، وسوء تصرفاته
تسبق رومانسية تفكيره الساذجة على حانات الغرب والشرق معا، حين ينثرها على شفاه عاهرات
الملاهي الليلة لدرجة انه كون سجلا متراكما عن تجاربه مع النساء ليلة بليلة حتى أفلست
جيبه انتظر قطار نصف الليل ليبحث عن فتاة كانت قد نشأت معه وهو صغير بعد ان ماتت أمها
بحمى النفاس فتركها والدها مع أمه لترعاها وما ان بلغت التاسعة من العمر أخذها والدها
معه لترعاه اثناء مرضه وانقطعت عنه أخبارها ، لقد شعر حينها بما انها تربية والدته
فهي حتما مختلفة عن كل النساء التي تعرف عليهن من عالم الجنس المثير فستتقبل عشقه وتصرفاته
الطائشة على علاتها فقد عرفها كزهرة اللوتس على ضفاف النهر الجاري عبر تجوال الحياة
إمتزج طهرها مع طهر ارض تنعشها حبات المطر لم يعد يشم في طريقه سوى رائحة التراب ومنظر
الارض الرطبة فتخيلها مع كل هؤلاء طفلة متوردة الوجنتين تهطل البراءة من أحداقها لتروي
زمن العفاف في عصر دنسته الرذيلة على سيقان العاهرات ، سمح لنفسه في ذلك اليوم للآمال
بأن تجدد نفسها في طريقه وللأمنيات بأن تداعب روحه سحبته أفكاره مع وقع خطواته فأصبحت
أوراقه الذابلة منتعشة على بريق الصباح عطرتها برائحتها عفاف التي كانت أمامه عالم
يغلفه المستحيل على ورق الأزهار الذابلة تعلن موتها مع ملامح الزمن الذي تصبغه ضياء
الشمس في أكفان ميته تبا لهذه الطقوس الغريبة التي تتشكل كالو هم المستحيل حين تسري
في الوريد لقد نظر إلى المرأة فوجدها تفقد أنوثتها في مكان بلا هوية تستنزف كل طاقتها
بين سكر وعربدة في ملاهي ليلية وعلى جنبات حانات تتقن فن الخداع بلحظات ممارستها للهوى
بينما على الزاوية المقابلة هناك من يتنفس الصمت بحثا عن رغيف خبز في أكوام القمامة
في حين تنثر ورقة نقدية على رعشة خصر الراقصات التي يتوهمن ثوب الفضيلة بعد ان لبسن
رداء الرذيلة الذي سممته الخطايا حين اعلنت العاهرة رقتصها بإشتهاء عفن مفاتنها إنها
سخرية القدر على أقدام فرعونية في كهوف المقهورين المحنطين بجثث الموتى في حين يرقص
الآخرون عليهم غير عابهين بمشاعر تبررها الدموع ويغطيها الوجع كل ذلك حمله معه في القطار
حين اطلق رصاصة أفكاره يقذفه جنون عفاف على أبواب دارها جرى من محطة القطار يسابق أنفاسه
حيث طهر الفضيلة التي ربتها والدته على يدها وهي لحمة حمراء ومع كل حلم كان يعانق الخيال
في سجن الهذيان وما ان طرق الباب حتى فتحتله إحداهن ببدلة الرقص وهي تنادي زبون جديد
يا معلمتي فقالت : دعيه يسبقني الى حيث اطلق صرخاتي هناك وما ان رأها سيقان تهرول دون
ترتيب حتى فقد حسه فعلم بأنه لن يعيش سوى عربيدا يشتهي الحانات وكؤوس الخمر وأجساد
راقصات الهوى عاتبها بلحظة إشمئزاز مستقذرا رائحتها إذ كيف بتربية أمه أن تكون كذلك
؟ حتى لمح الإجابة في عينيها تصفه بأنها تلميذة صغيرة في مدرسته التي يتردد عليها لتكشف
عن ذاته وأنها بموت والدته لم تجد لها رحما لتكمل فيه تكوينها سواه لحظتها فقط شعر
بأن القلب تنبت فيه أوجاعا اخرى اشد إيلاما أعلنها كصرخات مدوية بأن يلعن بسببها كل
أنثى ويلعن معها ذاته لقد احب اسمها يوما دون ان يعرف ماهية الأسماء خرج يترنح حاملا
حقيبة الهذيان ومع غروب الشمس توارى خجلا يلبس ترانيم الوجع بالقرب من المحطة الاخيرة
لحدود الحياة حين تخيلها كشيطان بدون ملامح تعرض جسدها العاري على عصارة الظلام وسط
قبلات ملوثة بالعناق تفوح منه رائحة الأموات بأقدام العمر وحين يتخفين بجلال الموت
على حافة جسر ليال موحشه لحظة شرود الروح الحقيقية بغطاء الكفن ، ينبلج النور وتتلاشى
العتمة بعد انقضاء العشرة ، حينها فقط ترتاح جثث الأموات من الرقص عليها
بقلمي : السهاد البوسعيدي
نشرت بجريدة الوطن ملحق أشرعة الثقافي