أحلام العصافير
كانت بغرفتها تقرأ روايات لا تنتهي ، نسيت حتى إرتشاف قطرات الماء ، بينما دمعها المتساقط يختبئ في صحيفتها التي بين يديها وكأنها مدانة ، تحاول أن تبعد نفسها عن مطارق البشر، حتى فنجان قهوتها أصبح باردا، أخذتها الرواية إلى إسبرطة وسحبتها ذاكرتها إلى معركة خايرونيا و الأسرة اليوريبونتية ، والتي قتل فيها أرخيداموس الثالث ملك إسبرطة ، تخيلت حد السيوف تهوي على رقبتها ، لم يبق بينها وبين الموت سوى حطام كاد يدمر واقعها ، وفي تلك الأثناء دخلت عليها جدتها اليونانية الأصل ذات الملامح الهيلينستية ، وهي تتأطئ رأسها وكأنها تود مقابلة وزيراَ لا حفيدة ، إن زارا " zara " ذات شخصية تتمتع بالقوة والذكاء من يراها يشعر بأنها تلجم جواد أكبر جندي من حراس قلعة أبيها ، تتمتع بسمات قيادية في جلباب أنثوي ، عشقت " zara " الفن والأدب الإغريقي القديم ، كثيرا كانت تسأل عن والدتها والتي لا تذكر شيئا من ملامح وجهها ، حين تغرقها تلك الأساطير اليونانية في قعرها ، كانت ترسل لها أوتوجرافا مع الطائر هاربي ذلك الطائر الذي عرفته الأساطير اليونانية القديمة الذي يشبه وجهه وجه الأنثى وجسمه جسم طائر ذات ريش مروحي ، ورغم ذلك كانت القيود تشدها لكي تبحث من خلال وثائق والدها عن ذكريات والدتها وبين جدران شفاه صمت جدتها أدركت الحقيقة ، إنها تشعر وكأنها أميرة بدون مصير ، كثيرا كانت تريد أن تسبق طموحها ، فهي تشعر بأن العمر يجري وبأن خطواتها لا مستحيل ، ورغم توحد الألم بداخلها إلا أنها في لحظة من لحظات أعياد الكنيسة تسحب أنفاسها المتثاقلة ، وفي 15 آب ليلة عيد العذراء مريم أثناء تلاوة الأناجيل المقدسة غرقت " zara " في نهر من الدمع بأعين متشابكات يحرقها أسى الماضي ، حتى حملها أساقفة الكنيسة الكاثولوكية بأمر من البابا بيونس الثاني عشر إلى لابرشيتنا السريانية بإنطاكية ، وهناك هبطت تحت ظل النخيل تزفها عصافير ملطية وطرطوس ، وجدت كل شيء قد تغير بالنسبة لها ولأول مرة كانت تسمع صوت المآذن بدلا من قرع أجراس الكنائس ، حاولت أن تجد من يفهما لحظة أن دارت بها الأرض دورتها فلم تجد سوى إثنان أحدهما من النصارى الأرثوذكس، والآخر من النصارى الأرمن ، وحين أرادت أن تستفهم قاطعوها قبل أن تكمل سؤالها ، بأن شواديف البابا قد ألقت بك هنا لأنك حملتي دماء أم مسلمة تزوجت إسبرطي من الأرثوذكس ، رفضت ترك دينها ، دفعتي أنتي بسببها حمل جينات وراثية من دماء عربية مسلمة ووالد أرثوذكسي فلفظتك الكنيسة برمتها ، تسلل في حلقها خيط من الدم ، ولم تعد تدري في أي ثوب تتوارى ، بتلك الأثناء حملتها إحدى العجائز إلى بيتها ولحظة دخولها الباب سرت بقلبها قشعريرة من صمت ، أحضرت لها العجوز لبنا وتمرا ، رفعت " zara " رأسها لتلك العجوز حتى غام الدمع في عينيها واحتبس الكلام بباب شفتيها ، تمنت تلك المرأة العجوز أن تنطق" zara " و تتحدث لتسمع حديثها وبلحظة قاطعتها لتقول لها : هل أنا ولدت من رحم الخطيئة ؟ وهنا قاطعة العجوز " zara " قائله لها : بالطبع لا ، ولكن والدتك فقط خرجت عن دينها ، فالمسلمة لا تتزوج بالأرثوذكسي ، إن امك سيدة عربية جمالها يشعل اللهب ، وقعت بحب والدك فلفظتها العادات والقيم حين عانقتها ذراع الكنيسة بدلا من أن تعانقها أبواب ومآذن المساجد بليلة زفافها ، شعرت بأن شيئا ما بداخلها يحترق ، ولكن إبتسامة تلك العجوز الوديعة قد اطفأ عنها الحرقة ، لقد إنتظرت " zara " طلقة توقظها لتسحب مخيلتها إلى كبد السماء ، ولكنها أحست بأن شروق الشمس لا يزال بعيدا ، بدأت تعد الحصا ، حتى تعبت ونامت بحضن تلك العجوز ، بدأت العجوز تستعيد تفاصيل أنثى ذوبتها سنوات ثقال ، تناقلتها ألسن العامة ، بعضها تهالكت على مدى الأعوام ، تستعيد مخيلتها بيوت زرقاء من الطين ، تمر من أزقته الصبايا في شارع من الدم الأحمر يسمى شارع الموت ، على أعتابه تذبح كل فتاة يكتشف بأنها مرتبطة بقصة حب لا ينتهي مع رجل قبل زواجها ، بقيت شاردة الفكر تنظر ل" zara " لم تستطع نسيان تلك الورود الذابلة التي فُضحت قبل أن تغفو في الظلام ، حملت حزنها على شال ملطخ بدماء العار الذي تخطى حاجز الفضيلة ، بدأت تجوس أمام عينها تلك الفاتنة الشقراء التي هربت مع رجل كاثولوكي حتى وصلت إلى الكنيسة الأرثوذكسية ، وبتلك الأثناء حماها اساقفة الكنيسة من شارع الموت المغرق بدماء الفاتنات ، بدأت تتهادى خطوط الكف بيدها وكأنها بين الأمس واليوم فنزلت دمعة على وجنة " zara " أحرق شالها قبل أن يحرق الدمع خدها ، بدأت على جريان الدمع تفتش التذاكر على خد " zara " وكأنها تغص بذكريات الراحلين ، فتحت " zara " عينيها على صوت المؤذن للصلاة لحظة أن نظرت لتلك الإبتسامة العذبة بأحضان العجوز وهي تلاعب خصلات من شعرها ، تدثرها ذكريات المارين أمامها لسنين فقالت لها : أنه صوت المؤذن للصلاة ، وفي تلك المساءات الطويلة بدأت ترقب " zara " العجوز وهي تصلي ، وكغيمة وارفة أجهشها الدمع طلبت منها أن تعلمها الصلاة ، تناست تلك العجوز حزنها وهدأت روحها على برد غطى جمر الحقيقة ، وهنا أعلن ولادة أميرة شقراء أنيقة نهضت على باب بيت تلك العجوز ذكريات المشمش وأورقت خلالها شجرات الزيتون لحظة أن لقنها إمام المسجد الشهادتين وأصبحت " zara " الأمس هي زهرة اليوم ، وغاب عن خاطرها صوت الكنائس ومزامير الأعياد ، وفي تلال تلك البيوت أصبحت " zara " الأمس زهرة اليوم تستحم بأشواق المساء على تراب الشام العتيقة ، يحاكي الجمال مزارها الطفولي ووجهها البريء تنشد خيط العمر ، وتغزل مروج الياسمين على أغنية المسافر ، وأصبحت كشمس حمص الدافئة ، على شفتيها إبتسامة الوداعة ، ورغم ذلك كانت ترتشف حزنا بداخلها كما ترتشف الأرض قطرات المطر، ولكنها كانت قوية بدينها لا تبث أوجاعها سوى لربها ، وحين يظهر على راحتيها التعب تنادي أماً ضيعتها السنين ، بقيت أسئلة تتدفق في روحها ، ترى هل ذبحت والدتها بشارع الموت مع من ذبحن بسبب وطأة الحب والهوى ، بدأت كالمكلومة تستدعي الرسام ليرسم صورة أمها ، فرسم عذراء بصليب ، إذ كيف يرسم نجمة لاحت لم يرها أبدا ، وعلى أنهار الرؤيا تبخرت صورة والدتها ، وتبعثرت أشواق على رمل حملته رياح السنين ، وبقيت كلما تسمع نداء العرافة تستعيد آنية ذكريات السنين ، بقيت " zara " الأمس زهرة اليوم كصبح رافل ، تستر وجعها بصوت المؤذن لتبقي ذاكرتها منتصرة ، وبقيت ترعى تلك العجوز لسنين ، وبقي قلبها تسكنه تلك السيدة التي حملتها معها إلى بيتها فأطعمتها التمر وسقتها اللبن بلحظة عطش شديد عندما لفظتها شواديف البابا في 15 آب ليلة عيد العذراء مريم أثناء تلاوة الأناجيل المقدسة حين أمر بحملها البابا بيونس الثاني عشر إلى لابرشيتنا السريانية بإنطاكية مع أساقفة الكنيسة ، وبدأت رحلتها اليانعة على أنطاكية واللاذقية ، تناوشها أغاني على درب شتاء لا ينتهي ، حملت كتاب الحضارة معها وجلست " zara " الأمس زهرة اليوم على أريكتها في حمص مع عام 2300 قبل الميلاد بتضاريسه ومجازره وحدوده الصاخبة تزرع تاريخا من شتاء وتاريخا من صيف على بسمة لاجيء إمتطى جواد الصبر ، ولولا أقدام جدتها العجوز دخلت عليها وأيقظتها في لحظة إنسجام تام مع الحضارة اليونانية وقد بلل المطر المتساقط من عينيها الوسادة لبقيت ترحل مع جزر وأرخبيل لا ينتهي بها ، تحملها فكرة فتاة قاتلها التاريخ على زنزانة تستغيث بالمساء ، ولحررت وشما من تاريخ الحضارات العتيقة على يديها في لحظة ظنت فيه نفسها بأنها الحمصية جوليا دومنا ابنة الكاهن الأعظم لإله الشمس في حمص وزوجة الإمبراطور "سيفروس الأول" ، وبقيت تناجي كتابا جديدا من الحضارة اليونانية لم يفتح بعد ، مجسدة واقع جميل ، فارغ من كل شيء ، سوى من روح وماضي لا ينتهي ، إنها تلبس جلباب من أحلام العصافير الذي لا يزال يسري فيه عشق من الحضارات اليونانية والإغريقية مرورا بالأدب السريالي تعكف فيه على دراسة واقع من الحضارات العتيقة ، لا تخاف فيه على نفسها لعنة فراعنة أو من مشنقة وطن متعدد الحريات والحضارات منفتح على خارطة العالم .
بقلم : السهاد البوسعيدية
http://www.alwatan.com/dailyhtml/ashreea.html#7