نشرة الأخبار

آخر المواضيع

السبت، 3 مارس 2012

بقلمي : القيثارة الأخيرة


كثيرا ما تنظر في فضاء مدلهم غير عابهة بما يدور حولها من أمور لا تعني لها شيئا ، ثمة رغبة سحيقة بداخلها تعلن لها بأن ما بقي لها من أيام ما هي سوى هياكل محطمة ، رعود مدوية برأسها تشعرها بأنها جثة بالية أنهكها الزمن منذ أن بدأت تعزف سيمفونيتها الرائعة على ضفاف بحيرة  أونتاريو الكندية فلقد سرى حب الموسيقى بداخلها كدم يسري في الشريان والأوردة لذلك درست الموسيقى وهي صغيرة في مدينة هاملتون تلك المدينة المكتظة بالسكان في مقاطعة أونتاريو والشهيرة بإسم حدوة الحصان الذهبي ، ومن ثم أكملت دراستها في جامعة ماكماستر الكندية . من يراها يشعر بداخلها أن ثمة لغز تخفيه  بعيدا عن أعين البشر حيث العينان الغامضتان والشفاة الصامته ، كل قطعة موسيقية تعزفها بأناملها ينتابها شعور غريب بأنها مهداة للموتى تحرس أرواحهم بداخل القبور ، هكذا هي تعتقد بقرارة نفسها ، كانت تضرب معزوفتها في الردهات الخالية ويسمع لها بين المنازل صدى ، كل قيثارة تعزفها كانت بالنسبة لها إعلان لصباح جديد يشعرها بأنها تلك الغادة الناعمة القادمة من بين جنبات الأندلس ، كثيرا ما جذب شعرها المائج غنجا ودلالا سيدات المجتمع الأرستقراطي وأبناء العائلات الملكية القادمون للتنزه في مدينة هاملتون الكندية دون أن تبدي لهم أي اهتمام ، فهي لم تعد تكترث سوى لجمال موسيقاها حيث يخيل لها بأن الأغنية المترابطة مع الموسيقى في فمها تفوح لحنا شجيا ،  هكذا هي واثقة الخطى نورها كقمر فضي يتوسط السماء وهي وسط ساحة بحيرة أونتاريو  ، حين تعزف قيثارتها كان كل من يمر بجانبها يضع أمامها دولارا كنديا وبعض الأحيان سنتا وهلله كندية ، وحينما تبدو الساحة خالية على ضفة البحيرة تبدو هي كنسر مريض  والبحيرة كأنما منتحرة على ركبتيها ، كان حلمها واضحا بسيطا بأن تسعد من حولها بجمال معزوفتها ، لم تكن تعلم بأن أنفاسها تسبق الموت قبل إنتحار قيثارتها على وتد المشنقة ، وأن الموت اسبق إلى قلبها وهي تغوص بين زوابع الشتاء أيامها تذوب حاملة بين راحة يديها مع كل قيثارة تعزفها رائحة الكفن رغم أن عمرها لم يتعدى عمر برعم لا يذكر سوى المطر ، حين تغمض بوصلة عينيها تتهادى لها العصور التاريخية في ليالي أندلسية وقيمها الخالدة ، لم تذكر من الأندلس سوى مواضيع تدرج في كتب التاريخ وبعض الكتيبات الصغيرة تعبر بها شوارع غرناطة كالحلم عبر ذاكرة ضبابية نسيتها أثناء هجرتها برفقة والديها إلى  كندا فضيعت ملامح الأندلس من بين تلك الأسماء التي ضاعت مع زحمة الأيام وليالي السهر فغيبت غرناطة والأندلس عن طريقها ، وحين لمع عصر ملوك الطوائف والمرابطين بذاكرتها الأندلسية في وسادة السرير البالية  قامت  من فورها بوضع الحانها في ليلة شتوية شديدة البرودة تخط لحن الكلمة كمسافر يعد أيام عودته لوطنه الأم تشم من خلالها رائحة قرطبة بقيثارة أخيرة تقوم بعزفها في مقاطعة أونتاريو الكندية تسحبها قيثارتها الأخيرة إلى تلك الأسوار العالية  والمباني الفخمة وحماماتها الرائعة مرورا بإشبيلية وغرناطة وإنتهاء بسرقسطة ، تلك هي قيثارة غادة ناعمة قادمة من جنبات أندلسية إلى مدينة هاملتون الكندية ، حيث بدأت تضيء ليلها بشمعة مهاجر فاقد البلد والأحبة يعيش في مهجر وغربة  شاردة البال عيناها مغمضتان على طيف أندلسي تحاول العودة إليه في حين على عزف قيثارتها في الليالي الشتوية الباردة سلة من ريحان وشعرها كارجوحة تحركها الريح على همس الوتر في كل مكان ، شعرت في لحظة بأنها كمسافر لا يحسن السفر يذهب متنقلا بلا  زواده ، ظلت تخاطب المساء تبحث عن قافلة تعبر بها مع المهاجرين للعودة إلى وطنهم الأم وبعقلها جملة كان قد كتبها فولتير حيث يقول : خبز الوطن خير من كعك الغربة حبست نفسها يوما بأكمله بداخل غرفتها لتكمل معزوفة قيثارتها مستذكرة  جورج سانتايانا حينما قال : قدم المرء يجب أن تكون مغروسة في وطنه، أما عيناه فيجب أن تستكشف العالم .

وفي المساء على ضفاف بحيرة  أونتاريو حدقة في أبعاد كثيرة بين أقداح وأحلام وبين يدها قيثارة تعزفها وصوت النعاس يداعب أهدابها فيذوب الأفق  من عزفها في حين يتعثر ويتثاءب جسدها جائعا ويد الحمى تطبق على فمها لهب يعربده الضجر ، وبلحظة عصَف الذبول بكل خلية من جسدها وفي الساحة المنزوية  تلك هوت متثاقلة  وهي تعزف لحنا جميلا ضمخته يد آذار غفت كسوسنة جميلة يراقصها الغناء في قبور الأموات فكانت تلك هي معزوفتها الأخيرة .



بقلمي : السُــهاد البوسعيدي