نشرة الأخبار

آخر المواضيع

الأحد، 4 مارس 2012

تمويل التعليم وإنتاجيته وأولويات الإنفاق على التعليم من أجل التنمية الشاملة



"التعليم مدى الحياة" عرفه الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية فلم يكن التعليم والتعلم مهنة أو حرفة، زمانية ومكانية، ولكنه ركن من أركان الحضارة وفرض على المسلم والمسلمة في كل زمان ومكان وتوافرت بنية ذلك التعليم في مكانه ومعلمه بل ومجتمعه الذي يعلم نفسه بنفسه... وحتى المفهوم الجديد الذي نادى به "دي لور" في تقرير لجنته التعلم : ذلك الكنز المكنون ـ لم يكن غريباً علينا إذ أن "مدى الحياة" ليس عرضها المكاني ولا طولها الزمني ولكن عمقها "نتعلم لنعرف" و"نتعلم لنعمل" و"نتعلم لنكون" و"نتعلم لنعيش". ولا أود أن أزخمكم بالأحاديث والتراث الذي يدعونا لكل ذلك فأنتم أعلم مني به.
ولكن، وهذه ملاحظتي الرئيسة التي سأكررها، أود أن أقول إذا كان "التعليم" في مفهومه الجديد سيكون هو "تعليم القرن الواحد والعشرين" فعلينا أن نفكر في تغيير طبيعة الإنفاق عليه وتمويله وخصوصاً أن القرن الذي نستعد للقائه يدعونا إلى "إعادة هندسية" لكثير من الأحوال Reengineeringوخصوصاً إذا كان القرن الذي نستعد للقائه هو قرن عصر المعلومات والتكنولوجيا ولن نتوانى لحظة في أن عصرنا الجديد سيغير الكثير من وسائل التعليم وأهدافه بل ومضمونه مما يتطلب أيضاً أن نحضّر أنفسنا ونتساءل عن أثر التكنولوجيا : شر هي أم خير !
ومن ناحية أخرى، فإن أحداً لا يستطيع أن يقول اليوم بأن التعليم إنفاق استهلاكي وحق من حقوق الإنسان فقط، ولكنه إنفاق استثماري من نوع "نبيل" خاص وهو المكون الأول في التنمية البشرية حيث أصبح "رأس المال البشري" لا يقل أهمية بل يفوق رأس المال العيني في كثير من الأحيان... حيث يتحدث الناس عن التنمية الثقافية أكثر مما يتحدثون... وحيث إن قوى الشعوب تقاس ببنياتها التحتية والفوقية.
فمن ناحية إذا أعطينا للتعليم الأساسي الأفضلية الأولى باعتباره "جواز سفر" إلى غيره من المراحل أو نوعيات التعليم الجديدة، فإننا نتعب أنفسنا كثيراً في البحث عن أفضليات للمراحل الأخرى فهي جميعها في المفهوم الجديد يشد بعضها بعضاً لكي لا يشكو الجسد من ضعف أي مرحلة، ولكن التعليم الجديد لا يقتصر على المدرسة وسلمها التعليمي فهناك تعليم البيئة وتعليم الفضاء وتعليم حقوق الإنسان، وغيره من أنواع التعليم التي لا ترتبط بمراحل معينة.
ومن المفيد القول إن هذا ليس دعوة إلى إلغاء المراحل كما لا تدعو لجنة دي لور إلى هذا ولكنها تدعو إلى "شبكات" من التعليم متصلة ومتعددة المخارج والمداخل... وهنا لابد من "دراسة حالة" لكل بلد ولكل مرحلة من مراحل تقدمه، وهنا تبرز أهمية "علم الإدارة"، وهذا العلم في المجتمع الجديد أصبح إيديولوجية أخرى حيث أصبح تحدي العصر كما أنه سيتقدم أكثر في القرن القادم، فالإدارة وترشيدها هي التي ترشد الإنفاق، وتضمنه لمخرجات التعليم "الجودة" التامة كما يقولون...
وإذا كانت السمة الأولى من سمات الإنفاق المجتمعي على التعليم هي "المشاركة" كما قدمنا، فإن السمة الثانية هي انتقال التعليم و"الميكانزم" من المركز إلى الأطراف، إن اللامركزية لا تعني فقط سلماً ديموقراطياً جديداً وهي تعني ذلك ولكنها تعني تمويلاً مسؤولاً يخرج الموازنات من مجرد التخطيط إلى الأداء ويضمن للمرة الثانية جودة ورقابة جديدة قد تصل إلى حد "المدرسة" التي تدير نفسها بنفسها.
وإذن فإن تمويل التعليم يجب ألا يقتصر على الحكومات "التمويل العام" بل يجب أن نفكر في احتمالات تمويل "مجتمعي" يقوم به المجتمع كله ونبحث عن "إضافة" فضلاً عن دور الحكومات لأن تعليم الغد لن يكون إلا غالياً ولأن >المجتمع الذي يعلم نفسه بنفسه< يجب أن يشارك في تمويل التعليم وهذه دعوة أولى للتحرر من احتكار الدول لعملية تمويل التعليم، ولكننا لا نعتقها من مسؤولياتها وإنما نعتقد أن التمويل الذي ندعو إليه يحرر مجتمعنا من كثير من عوامل الضغط ويعمق روح الديموقراطية فيه، بل إنه يعيده شيئاً فشيئاً إلى تراثه حيث لابد أن ننطلق من ذلك التراث إلى المستقبل.
و"التعليم" مدى الحياة يحررنا من ضغط توزيع الأموال والموارد المتاحة من حيث أفضلية المراحل أو حتى من حيث أفضليات بين المدخلات الأخرى.
إن مبدأ "التعليم للجميع" كان فلسفة أواخر هذا القرن وبذلك تركز تمويله على الدولة، أما التعليم للجميع فسيكون فلسفة القرن القادم.
ذلك أن موضوع التعليم نفسه سوف لا يرتبط بمناهج مرنة تصنع من قبل، ودور "المعلم" في تنفيذها وهي متصلة بحاجة الحاضر أو نظرته إلى المستقبل ولكن في القرن القادم سنعلم "للمجهول". فلن تكون المناهج مغلقة ولكنها ستكون معلبة، نعم، ولكن سيترك للمعلم وللمجتمع نفسه أمر البت في صلاحيتها وتنفيذها.
وهذا أيضاً يدفعنا لنغير من طبيعة التمويل السائدة إلى طرق أخرى ملائمة.
إن الدولة لا تتفتَّت كما يبدو لنا في بعض المجتمعات ولكنها تصبح كالأسرة الكبيرة التي تنشأ تحت عباءتها أسر صغيرة مكتفية، هذه "الخلايا" هي المسؤولة عن شبكات التعليم وهي المسؤولة عن تغير طبيعة الإنفاق عليه...
وليس معنى كل ذلك أن تتخلى الدولة عن مسؤولياتها في التعليم لا من حيث تمويله ولا من حيث ضمان أهدافه ورقابتها وتوجيهها، وعلى العكس سيظل واجب الدولة "الأمني" باقياً ولكنه أمن من نوع مغاير عما عرفنا فهو أمن متصل "بالبناء الوطني" هيكلته ومقدرته على التقدم، وهو أمن متصل بالحفاظ على ثقافة المجتمعات وتنوعها دون محاولة سيطرة ثقافة ما على ثقافة أخرى، وهو أمن يحقق ما تنبأ به المفكر الفرنسي "مالرو" بأن القرن القادم سيكون قرن الروحانيات والثقافات أو لا يكون...
"التعليم" كما قال تقرير "إدجار فور" منذ عشرين عاماً هو أن نعلم الناس كيف يعلمون أنفسهم... والتعلم كما حول "دي لور" إحدى حكايات "لافونتين" عن الفلاح وأطفاله : >قال الفلاح : احذروا بيع الميراث الذي تركه لنا آباؤنا ففيه كنز مكنون<.
وقالت لجنة دي لور أن ذلك الكنز هو "التربية" وتعني كل ما تعلمته البشرية عن ذاتها وغيّر قول لافونتين إلى : >وكان العجوز حكيماً عندما أوضح لأولاده قبل وفاته أن التعلم هو ذلك الكنز المكنون<.
مما يؤدي إلى اقتراحنا بأن تصبح "مؤسسات التربية" هي أيضاً مؤسسات تنمية.. إذ أن التعليم لا يمكن أن يخلق التنمية أو يساعد على دفعها، إذا كان هو نفسه لايؤدي إلى تنمية، ففاقد الشيء لا يعطيه ومن هذا كان القول إن التعليم نفسه هو التنمية، التنمية البشرية الشاملة ومن ثم سنوجز ونتعرض في عجالة إلى تمويل القرن الذي نعيشه وهو "التمويل العام" وننتقل إلى الحلم الذي سنعيشه وهو التمويل المجتمعي، وفي النهاية نتعرض إلى دراسة حالة، وهو دور التعليم في تنمية النمور السبع من جنوب شرق آسيا.
تجاوز الإنفاق العام (الحكومات وهيئاتها) على التعليم في العالم الألف مليون دولار أي ما يعادل 5 % تقريباً من الدخل العالمي في 1995، ولم يبلغ عدد الطلبة المسجلين في العام المليار طالب بدافع إنفاق دولار واحد على الطالب المتوسط في العالم... وبينما خصص 85 % من هذا المبلغ للبلاد المتقدمة أي أكثر من منه، بينما لم يبلغ طلبة البلاد المتقدمة إلا ربع طلبة العالم، وبذلك يتضح الفرق بين ما ينفق على الطالب في البلاد المتقدمة وما ينفق على الطالب في البلاد النامية، التي تحتاج أكثر إلى التعليم، وهي لا تنفق إلا 4,1 % من مجموع دخلها القومي أي أن نصيب الطالب الواحد في البلاد النامية لا يبلغ حتى الدولار الواحد في العام 1990.
هذه هي الحقيقة الأولى أن الدول المتقدمة تنفق على تعليمها أكثر من الدول النامية، ومن شأن هذا مضاعفة الفروق بينها...
أما السمة الثانية من سمات الإنفاق على التعليم فهي أن الإنفاق العام يبلغ أضعاف الإنفاق الخاص فهو لم يبلغ في البلاد المتقدمة حتى ثلث الإنفاق العام ويتراوح بين 27 % في ألمانيا و2 % في هولندا وبين 80% في هايتي و6,9 % في هنغاريا و57 % في أوغندا و37 % في أندونيسيا، وعلى العموم فإن نسبة الإنفاق الخاص في البلاد النامية أعلى نسبياً من الإنفاق على القطاع الخاص في البلاد المتقدمة على أن نفقات التعليم على الصعيد العالمي لا تتناسب مع عدد السكان، فبينما يبلغ نسبة عدد الطلبة 25 % من السكان خصصت لهم 5 % من الدخل القومي العالمي. ولكن المهم أنه على الصعيد العالمي أيضاً يتجاوز الإنفاق العام كثيراً الإنفاق الخاص على التعليم..
ما هي المبررات ؟
والسؤال الأول الذي نوجهه هو لماذا يبلغ الإنفاق العام على التعليم في هذا القرن أضعاف القطاع الخاص ؟ وهل هذا الاتجاه سيستمر في تعليم القرن الواحد والعشرين حيث ستبلغ نفقات التعليم حدوداً لا يمكن التكهن بها نسبة لتقدم التكنولوجيا وارتفاع نفقاتها.
ومبررات الإنفاق العام والتي هي وليدة الظروف الاجتماعية والاقتصادية هي :
أولاً أن الإنفاق على التعليم يساعد على انحسار الفقر وذلك بتفادي سوء توزيع الدخل لأن التعليم من شأنه رفع الإنتاجية في الزراعة وتمكين العمال من مواكبة التقدم الصناعي وبذلك ترتفع دخول الفقراء لأن التعليم هو رصيدهم الوحيد الذي يجسد هوة الدخل بينهم وبين الأغنياء. والإنفاق العام على التعليم الأساسي تستفيد منه جماهير الشعب الأكثر عدداً من حيث السكان ولأن الأغنياء قد يلجؤون إلى التعليم الخاص.
وبذلك تعمل الدول على مساواة فرص المواطنين والذين قد لا تساعدهم الظروف على دفع نفقات التعليم.
ثانياً أن طبيعة سوق المال الذي يمكن أن يمول منه التعليم بدلاً من أن يحمل هذا الإنفاق لدافع الضرائب، هذا السوق لايعطي قروضاً إلا بضمانات ولا يمكن أن تقبل البنوك وساطتها لقروض ليست بنكية أو مصرفية بطبيعتها.
ثالثاً عدم "شفافية" آثار التعليم بمعنى أن العائد لن يكون واضحاً ولا يمكن أن يتعلل الرجل العادي بأن يدخل نفسه في التزامات مالية انتظاراً لما يدره التعليم عليه في المستقبل أو على أبنائه.
إن عائد التعليم كما قدمنا ينفع المجتمع وتقدمه، وقد يتسبب في منافع صحية للمجتمع، فقد يدفع لتنظيم الأسرة في بلد يتضخم سكانه ولكن كل هذا لا يمس مباشرة الأفراد وقد يمس الدولة والمجتمع.
على أننا إذا ذهبنا إلى الإنفاق على مستويات التعليم المختلفة الأساسي والثانوي والعالي، أو حتى على الإنفاق على مدخلات التعليم المختلفة، كانت رأسمالية أو متكررة (جارية)، وكانت مواد دراسية أو تجهيزات فإننا نجد أن تدخل الدولة يضمن عدالة توزيع وجدوى الإنفاق في كثير من الأحيان.
إن التعليم الأساسي يجب أن تكون له أولوية الإنفاق في كل البلاد التي تعممه حتى الآن وتعمم جودته ومجانيته ولكن بعد إحراز هذا المستوى يتجه التمويل إلى التعليم الثانوي الأكاديمي أو الفني باعتباره المتصل بالحياة وبفرص العمل المبكر فيها وهذه درجة أخرى من التقدم. وإذا انتهينا من ضمان الإنفاق على المراحل قبل الجامعة يكون الاتجاه ضرورياً إلى التعليم العالي لحاجة البلاد للمهندسين والأطباء ورجال السياسة ورجال الأعمال.
وكل هذا يصعب على القطاع الخاص أن يضطلع به فلهذا القطاع نظراته ومبرراته الأخرى والحاجة إليه تكون حاجة "إضافية
تعرضنا فيما سبق إلى نسبة إنفاق التعليم من الدخل القومي فيما يسميه بعض الاقتصاديين "المجهود التربوي المطلق". وقد رأينا أن نسبة إنفاق التعليم إلى الدخل القومي تتراوح بين 5,8 % في البلاد المتقدمة و4,1 % في البلاد النامية وتتجاوز النسبة في البلاد العربية إلى 6 %. وقد كانت هذه النسبة في سنة 1960 للبلاد المتقدمة 3,47 % ثم ارتفـعت سـنة 1980 إلـى 5,55 % مـن الـدخل الـقـومي مــع أنـها فـي البـلاد النـامية كـانت 2,55 % في سنة 1960 وارتفعت إلى 4,35 % في سنة 1980 وانخفضت بعد الثمانينات. أما نسبة الإنفاق من موازنة الدولة فقد كانت 16,1 % في سنة 1965 ثم انخفضت سنة 1980 إلى 13,3 %.
هذا المجهود التربوي النسبي تراوح في سنة 1992 لإفريقيا ما بين 27 % للجزائر و10 % فـي مـالي وفـي آسـيا بـين 28 % لإيـران، 3,7 % فـي سنغـافورة وبلـغ فـي مـاليزيا 16,9 % وفي السعودية 18 %.
وفي جداول يمكن الاطلاع عليها عرضنا نقلاً إحصاءات اليونسكو كل هذه المعلومات.
"الأزمة التربوية" الراهنة هي أزمة عالمية، انطلق تقرير ادجار فور منذ سنة 1972 وعام التربية العالمي 1970 لعلاجها، وقد سبق في ذلك "فيليب كومز" 1980، وها هو تقرير "دي لور" ولجنته عن تعليم القرن الواحد والعشرين والمسمى "التعلم : ذلك الكنز المكنون" يصدر بنظرة شاملة ومغايرة وخصوصاً في مفهومه الجديد "للتعليم مدى الحياة".
وإنني لا أود أن أتعرض هنا لهذه الأزمة، من حيث عمقها أو أسبابها ولكن بلا شك أن هذه الأزمة أثرت على تمويل التعليم وهي بصدد خلق أزمة فيه وتكاد تكون واقعية. ولعل عجز النظم التربوية عن إعداد القوى العاملة، وتأهيلها بما يتلاءم مع حاجات سوق العمل والنمو الاقتصادي، ذلك النمو الاقتصادي الذي سبب قصوره أزمة تمويل التعليم، هذه الأزمة التي ما كانت لتكون لو أن نظمها التعليمية دفعت عجلة التنمية كما يجب أن تفعل.
ففي فترة السبعينات حالت وفرة الموارد من قيام أزمة التمويل وتدني وتيرة النمو المتصاعد التي عرفتها البلاد المتقدمة والبلاد النامية على السواء.
ومن ناحية أخرى إن ازدياد عدد السكان وخصوصاً في البلاد النامية زاد الموقف تعقيداً لأن معنى ذلك زيادة الحاجة إلى موارد جديدة، فبينما نقص سكان البلاد المتقدمة بمقدار 6 % بين سنة 1970 و1990 ازداد عدد سكان البلاد النامية إلى 31 % بين هذين العامين وكانت نسبة الزيادة 89 % في إفريقيا جنوب الصحراء وبلادها الإسلامية وبلغت الزيادة 75 % في البلاد العربية كما أن هذه الزيادة شملت جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
وبالرغم من نقص درجة الخصوبة في بعض البلاد فإن توقعات زيادة السكان في بداية القرن القادم ستكون ضخمة إذ من المتوقع أن يزيد الأطفال تحت سن الـ 15 في العالم بنسبة 12 % بين سنة 1990 وسنة 2000 وزيادة 26 % بين 1990 و2025. وسينخفض عدد السكان في البلاد المتقدمة ولكن الزيادة ستحدث في البلاد النامية وخصوصاً في بلاد جنوب الصحراء الإفريقية حتى تصبح الزيادة 105 % بين 1990 و2025. ويسبق الزيادة في أعداد السكان الزيادة في الطلبة المسجلين بمختلف مراحل التعليم إذ تريد الدول النامية أن تلحق بالدول المتقدمة.
ما انطبق القول "الاقتصاد علم الخيارات" أكثر من انطباقه على مشكلة التعلم وخياراته.
وقد أدركت لجنة "دي لور" الدولية وهي تحرر تقريرها في فصلها "الثامن" خيارات من أجل التربية :
العامل السياسي :
ليس للتعليم كل السحر الذي ينتظر منه... مع "محدودية" الموارد لابد من توزيعها توزيعاً عادلاً وكفؤاً ورشيداً للمواءمة بين "النافع" أي المفيد، والنوعية الطيبة وتحقيق الفرص المتساوية أي العادلة.
وليس هناك "حل مثالي" يقدم فيحتذى، ولكن الأمر يتعلق "بالمجتمع المختار" الذي يحدده الفكر السياسي السائد اقتصادياً واجتماعياً وأكثر شمولاً ثقافياً.
ذلك "الاختيار" يواجه البلاد النامية ذات الموارد المالية المحدودة، ولكنه أيضاً يواجه البلاد المتقدمة التي تسعى دائماً إلى التوازن في سوق العمل بين العرض والطلب أو فيما يسمى مشكلة البطالة بصفة عامة في البلاد المتقدمة وبطالة المتعلمين في البلاد النامية وهي محصلة نظام تعليمي قاصر..
ويواجه هذا الاختيار متخذي القرار السياسي فتطالب الصناعة وسوق العمل بخريجين مهرة وأكفاء ويطالب البحث العلمي بموارد مالية ولكن ليس أقل أهمية بناشئة تحترف البحث العلمي.
Top flight higher education that produces young researchers.
ويطلب الأكاديميون والفنانون أشياء أخرى من التعليم بينما يصرّ "الآباء" على نوعية تعليم لا تتوافر إلا بالمدرس الجيد جداً.
ولا يمكن إهمال أي مطلب من هذه المطالب المشروعة والتي هي نفسها الغاية والهدف من التعليم وبذلك ترى اللجنة أنه لابد من "الحوار" الديموقراطي الجماعي والضروري ليس فحسب لإيجاد "الموارد"، ولكن أيضاً لتحقيق أهداف التعليم نفسه وهي : تعلم لتعرف، وتعلم لتعمل، وتعلم لتكون، وتعلم لتتعايش.
هذا الحوار يجب أن يسبقه تقويم النظام التعليمي القائم، والحوار كما قدمنا ليس كله اقتصادياً بمعنى أنه يسوده مبدأ "التكلفة والعائد" ولكن اعتبارات "المشاركة" في المجتمع والإحساس بالانتماء والرضا هذه عوامل لابد أن تؤخذ في الاعتبار.
يجــب أن يبـنـى التــعليم عـلى أسـس شـاملة، للاعتـبارات الاقـتصادية والمعـنوية والروحية : الحق في التعليم بين تكافؤ الفرص والجدوى الفاعلة.
ويجب أن يتراوح مستوى الحوار بين القاعدة التي تستفيد منه والقمة التي عليها أن تتخذ قراره السياسي، وأن تتسع مجالاته بين البرلمانات ووسائل الاتصال الجماهيري.
هذا الحوار هو في نفسه "عملية تعليمية".
ويشمل الحوار هذه المواضيع للمثال لا للحصر :
ـ مركزية التعليم ولامركزيته.
ـ مشاركة كل أصحاب الحق والفعالية.
. زيادة الإنفاق العام على التعليم بالنسبة لما ينفق على المرافق الأخرى حتى لو كانت دفاعية أو أمنية.
وتقترح اللجنة أن لا يقل الإنفاق عن 6 % من الدخل القومي ونعتقد أن زيادة الإنفاق على التعليم من شأنه أن يحقق الأمن الداخلي ويخفف من أسباب التوتر والعطالة والاستبعاد في داخل كل بلد، بل إن هذا يخفف من التوتر العالمي لردم الهوة بين الشعوب المتقدمة والشعوب النامية ذلك أيضاً أن الإنفاق على التعليم ليس استثماراً اجتماعياً فحسب، ولكنه أيضاً اقتصادي إذ يضاعف من رأس المال البشري.
وهو أيضاً استثمار ثقافي وسياسي يرفع من مستوى المواطنين إلى "المواطنة" وممارسة الديموقراطية كما يحافظ على وحدة الأمة وتراثها.
كذلك يرفع التعليم المستوى التكنولوجي للشعوب النامية ويعدها لدورها في الإقلاع نحو التقدم.
. وتوصي اللجنة أن يساهم القطاع الخاص في تمويل الإنفاق على التعليم، وأن تساهم الأسر والطلبة بمساهمات مالية ولو ضعيفة لإشعارها بالمسؤولية أيضاً.
. أن تتولى "المحليات" والمجتمعات المحلية إعداد الجزء الثابت من مداخيل التعليم والمتعلق بالإنشاءات والتجهيزات وهنا تبرز أهمية أن نتخلص من أبنية المدرسة التقليدية إلى أنواع جديدة من المدارس أقل نفقة ومتمشية مع قدرات البلاد النامية المادية، وقد تكون في بعض الأحيان ملائمة للبيئة كالمدارس القرآنية والكتاتيب وغيرها.
وأهـم ما يقـترح فـي هـذا المجـال تـعزيز "ثقـافة المحـافظة علـى البـنية التـحتية" Culture of maintenance
. أن يتولى رجال الأعمال والصناعة الإنفاق على التدريب المهني بل والمشاركة في البحوث في التعليم العالي والجامعات.
. توصي اللجنة بالتمويل المختلط متحررة من بيروقراطيات المالية العامة ومبادئها المتجمدة.
الإشارة إلى مشروع الدكتور مفيد شهاب رئيس جامعة القاهرة في دور الجامعات كبيوت خبرة للصناعات والزراعة.
. تحديد نسبة نقدية كحد أدنى من مساعدات التنمية (ربع مجموعها) للإسهام في تمويل التعليم، وهنا الميل في صالح التعليم ينبغي أن يطبق أيضاً في المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي.
. التوسع في تطبيق مبدأ "إسقاط الديون مقابل الإنفاق على التعليم" بحيث يعوض هذا عن الآثار السلبية لسياسات التعديل الهيكلي وسياسات تخفيض أرقام العجز الداخلي والخارجي في الإنفاق العام على التعليم.
. نشر التكنولوجيات الجديدة التي يطلق عليها تكنولوجيات مجتمع المعلومات لصالح جميع البلدان لتلافي اتساع الهوة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة.
. تعبئة الطاقات الهائلة التي تتيحها المنظمات غير الحكومية.
اقتراح "دي لور"
تقدم رئيس اللجنة باقتراح وهو :
ما دام التعلم مدى الحياة سيأخذ مكانه شيئاً فشيئاً ليصبح حقيقة واقعة فمن الممكن التفكير في إعطاء كل يافع في بداية التحاقه بالتعليم حيزاً زمنياً يخوله الحق في عدد معين من سنوات التعليم على أن يقيد هذا الرصيد في حساب في مؤسسة تتولى بطريقة ما إدارة رأس مال من الزمن يكون متوافراً لكل شخص مع الموارد المالية المناسبة بحيث يمكنه أن يتصرف في رأس المال هذا وفقاً لتجربته المدرسية واختياراته الخاصة ويمكن أن يحتفظ بجزء منه لكي يتسنى له في حياته كراشد الاستفادة بإمكانات التعليم المستمر ويمكنه أيضاً زيادة رأس ماله بإجراء إيداعات مالية كنوع من الادخار المخصص للتعليم تقيد لحسابه في المصرف المختار.
نموذج آخر مقترح لتمويل نشاط البحث العلمي والدراسات العليا بالجامعة، مقدم من الدكتور مفيد شهاب رئيس جامعة القاهرة.
ويهدف النموذج إلى توفير التمويل الكافي لكل جامعة من خلال نوع من التنسيق والتفاعل الثنائي بين الجامعة ومؤسسات الأعمال والمنظمات الحكومية في المجتمع.
يعتمد النموذج على المبادئ الأساسية الآتية :
أ) الدعم التشريعي من الدولة للنموذج المقترح حتى يمكن تطبيقه بشكل سلس وحتى يخلو من التعقيدات البيروقراطية.
ب) أن تتبنى كل جامعة استراتيجية محددة للتمويل الذاتي المعتمد على ما تقدمه من منتجات بحثية تساهم في نشاط البحوث والتطوير لتنمية الإنتاج في مؤسسات الأعمال.
ج) تنسيق التعاون والتفاعل بين مؤسسات الأعمال بقدر حاجتها إلى البحوث والتطوير والكليات المختلفة
والعالم يودع قرناً ويستشرف فجراً آخر، تتجه أنظارنا إلى دور جديد لتعليم القرن الواحد والعشرين يواكب التغيرات ويساير آمال الشعوب في عصر ساد فيه "مجتمع المعلومات" الذي أصبح مسيطراً على نظم التعليم، وتتصاعد أشواق الشعوب إلى أخلاقيات عالمية قد تحقق التوازن المطلوب ليس بين من يملكون ومن لا يملكون ولكن ربما بين من يعلمون ومن لا يعلمون.. وتحقق نبوءة "مالرو" أن القرن القادم سيكون قرن الثقافة أو لا يكون..
وقد استقرت المراوحة في أخريات هذا القرن بين أولئك الذين يرون في التعليم حقاً من حقوق الإنسان ولكنه إنفاق اجتماعي وبين أولئك الذين يرون في التعليم حقاً من حقوق الإنسان ولكنه إنفاق استثماري، كما قدمنا لا يشك أحد الآن في التعليم مكوناً لرأس المال البشري الذي أصبح معادلاً إن لم يكن متفوقاً على دور عناصر الإنتاج الأخرى، وسلعة في محصلة التنمية البشرية المتواصلة والاتفاق على أن التعليم استثمار يغير من طبيعة تمويله وخصوصاً أنه استثمار "نبيل" نظيف ومتجدد لا حدود زمنية ومكانية له، يجب أن يشارك في تمويله المجـتمع كله وليس حكوماته أو قطاعها العام، وكان الإنفاق العام طوال القرن متراوح بين 60 % إلى 95 % ولم يؤد القطاع الخاص إلا جزءاً يسيراً من إنفاق التعليم كما قدمنا.
ودافع آخر من دوافع التمويل الجماعي هو أن المدرسة لم تعد الوعاء الوحيد للتعليم، فقد انتشرت أمكنة بفضل تقدم التكنولوجيا وأصبحت تصل إلى آفاق بعيدة، ابتعد فيها المعلم عن الدارس فيما يسمى بالتعليم عن بعد، وابتعدت فيها دوائر نشر التعليم وتنوعت فأصبح لكل مرافق الحياة، بل قد أصبح للبيئة تعليم، وللديموقراطية تعليم، وللقرى تعليم، وللمدن تعليم وأصبح "المدرس" مطوراً وموجهاً، بل في بعض الأحيان يكاد يكون رسولاً، فهو معلم المجتمع أيضاً وليس معلم الفصل أو الناشئة.
ودافع ثالث من دوافع التمويل الجماعي، أن التعليم لم يعد متصلاً بالعمل ملائماً له، ولكنه يخلق فرصه ويوجه صاحبه إلى معيشة أخرى، ولم يعد يكفي زاد تعليم في سنوات لمواجهة الدهر كله.
ودافع رابع وخامس وسادس، تتصل جميعها بثورات التكنولوجيا المتجددة، وبهجرات الإنسان الاختيارية أو المفروضة عليه، وبمدى وطول حياته التي أصبح التعليم فيها مدى الحياة وخرج علينا تقرير "دي لور" المشهور عن تعليم القرن الواحد والعشرين وعنوانه "التعلم كنزنا المكنون" خرج علينا بمعنى جديد للتعليم مدى الحياة، تقدم عن كل تعليم مستمر عرفناه حتى قبل تقرير "ادجار فور" "تعلم لتكون" حيث كان التعليم المستمر مرحلة إضافية من مراحل التعليم المقيم وأصبح التعليم مدى الحياة "أسلوباً" جديداً للتعليم يبدأ مع التعليم قبل المدرسي أو حتى مع حمل الطفل، ويستمر معه طول الحياة كرفيق دائم يظل في نظمه التعليمية القائمة سواء في التعليم الأساسي أو التعليم الثانوي، أو التعليم العالي الأول والثاني بعد الجامعي.
بل إن التعليم مدى الحياة يعني أيضاً أن نكون جميعاً دارسين ومعلمين وأن يكون الدخول أو الخروج إلى نظم التعليم حراً للجميع حرية غير مرتبطة بسن أو مكان، أو دين، أو جنس أو طبقة أو حرفة وتكون "شبكات" التعليم محيطة بالإنسان منذ مهده إلى لحده وهي موجات فضائية تقتحم عليه حتى أعز وأخص مساكنه...
ذلك أن التعليم هو أن نعلم الإنسان كيف يعلم نفسه وذلك أن التعليم هو أن نعلم الإنسان ما لم يعلم، فاضت فيه المناهج لأن هدفها لم يعد معلوماً ولا محدوداً.
وأصبح التعليم هو "المجتمع الذي يعلم نفسه بنفسه" حقاً لا خيالاً فحسب كما كان الأمر قبل ذلك.
إن تغير طبيعة التعليم بالصورة التي حاولنا أن ننقلها فيما قبل، وقلنا إنها تغير من طبيعة تمويله.
إننا لا ننادي بحال من الأحوال إلى إعفاء الدولة أو الحكومة من القيام بنصيبها من تمويل التعليم فهي مطالبة بقدر وسعها على أن تنفق على التعليم، كما هي مطالبة بدور الإشراف والرقابة والحراسة وتحقيق أمن التعليم الذي يحقق أمنها.
ولكننا نطالب بتمويل إضافي، هذا التمويل الإضافي تقدم به بعضهم وزاوله بعضهم الآخر ولكننا نلخص هذه المصادر في توصيات عامة ونتحدث عن مبرراتها Rational وأساسها :
أولاً : ونحن نسلم بأن التعليم أصبح استثماراً فلماذا امتنعت مصادر الاستثمار المختلفة عن تمويله ؟ إننا ننادي البنوك عامة والبنوك ذات الطبيعة الاجتماعية خاصة مثل بنك جرامييه البنغلاديشي والبنوك الإسلامية بصفة خاصة أن تساهم في تمويل التعليم، إن حجة "الضمان" لم تعد قائمة لأنها أصبحت جماعية وارتبطت بالعائد على المجتمع من مشروعات التنمية.
إن البنك الدولي أصبح منذ أكثر من ثلاثين عاماً وخصوصاً الآن من أكبر الممولين للتعليم على صعيد التعاون الدولي بل إن هذا "البنك" له سياسة تعليمية معروفة في أفضليات يمكن أن نلخصها فيما يأتي :
ـ أفضلية التعليم الأساسي
ـ الاهتمام بالتعليم الثانوي
ـ تأكيد أهمية التعليم العالي بعد إصلاحه.
ثانياً : إن امتداد التعليم ليكون مدى الحياة يعفينا شيئاً فشيئاً من بحث أولوية الإنفاق على التعليم فقد كنا نهتم فيما مضى أكثر وأكثر بمشكلة القبول والعدالة وهل نعطي التعليم الأساسي أفضلية على أنواع التعليم الأخرى أو أن التعليم الجامعي رفاهية لا نلجأ لها إلا إذا غطينا مراحل التعليم الأخرى.
إن التعليم الأساسي لابد أن يعتبر أولى بغيره في البلاد التي لم تحققه بعد من حيث القبول الإجباري والمجاني ومن حيث الجودة، فالتعليم الأساسي هو جواز مرورها إلى كافة أنواع التعليم. أما تلك البلاد التي حققته باعتباره جواز السفر الأول في مرحلة التعليم مدى الحياة فإن الأولويات بين مراحل التعليم المختلفة لا يكون لها الأهمية التي كانت لها إذ ستزول شيئاً فشيئاً ما دام الدارس يمكن أن يعود من جديد إلى التعلم بعد تركه وما دامت هناك جسور متعددة بين مراحل التعليم وما دام الطريق غير مسدود بين الحياة والعمل والتعليم... وإذن سيكسب تمويل التعليم مرونة تساعد على تيسيره وهناك الكثير من المشاريع والمقترحات وفيها اقتراح السيد دي لور في تقرير اللجنة الدولية "سندات التعليم" التي تصرف لكل دارس لكي يعود إلى التعليم متى شاء في أي طور من أطوار حياته باعتبار أن له حقاً مكتسباً ومؤمناً عليه، وتتحول شيئاً فشيئاً مسؤولية التعليم من دافع الضرائب إلى المستفيد الذي يشارك في تمويله ويستفيد مباشرة منه كما يستفيد المجتمع.
ثالثاً : وما دام أن أوعية التعليم تعددت وخرجت عن تقليدها القديم المدرسة أو الجامعة فلماذا لا تتحول هذه الأماكن إلى مؤسسات إنتاجية ليس فحسب لتوفر نوعاً من التعليم العملي لم يكن متوفراً وليكون الامتزاج بين العمل والنظريات حقيقة مفيدة ولكن أيضاً أن تتحول هذه المؤسسات التربوية إلى مساهمة في الإنتاج كما يمكن أن تكون عليه كل معاهدنا الفنية في المدن بالنسبة للصناعة والخدمات الحرفية وفي القرى وفي الريف بالنسبة للزراعة.
أما الجامعات فعليها أن تتحول إلى "بيوت خبرة" تمد المجتمع الصناعي والزراعي والخدمي بالخبرات التي يحتاجها وكذلك الخدمات الصحية والاجتماعية الأخرى.
إن الجدل الذي يدور الآن حول Rationalité الجامعات الخاصة يجب أن يدخل فيه هذا العنصر الجديد وهو العنصر الحاسم أن الجامعة يجب أن تكون "جامعة المجتمع" كما هي جامعة العلم وجامعة الثقافة هذا هو النمط الجديد للجامعات التي ستسود ولا يهم إن كانت هذه الجامعة، جامعة خاصة أو جامعة عامة. إن طموح الجامعات الخاصة التي صرح بها لا يعفي الجامعات العامة من دورها الجديد.
وإن نجاح الجامعات الخاصة في هذه المهمة أي أن تكون بيت خبرة للمجتمع هو المعيار الوحيد لنجاحها... إن هذه الجامعات لا يجب أن تنتظر عائداً خاصاً لاستثمارنا لأننا كما قلنا إن الاستثمار في التعليم هو "استثمار نبيل" الغرض منه هو "عائد المجتمع" لا عائد المساهمين الذين هم أيضاً أعضاء في المجتمع أما الربحية فيه بأن يتجاوز الإيراد الإنفاق فهو معيار النجاح فقط وليس هو هدف الاستثمار. وهذا هو المبرر للجامعات الخاصة أي غير الحكومية والفلسفة هي أن الحكومة متهمة دائماً بسوء الإدارة والبيروقراطية وانعدام الابتكار (اقتراح مفيد شهاب).
رابعاً : بقي موضوع يتصل بالتمويل مهما كان مشكله عاماً أو مجتمعياً وهو الأولويات لمدخلات التعليم من مدرس وتجهيز ومعدات وتكنولوجيا وخصوصاً الجدل بين الأبنية الدراسية المناسبة.
ويتصل بهذا أيضاً توزيع الموارد توزيعاً سيئاً على هذه المدخلات.
وهنا لابد من كلمة عن الإدارة الحسنة والإدارة السيئة لتمويل التعليم، إن الإدارة الحسنة لتمويل التعليم معيارها مبدأ التكلفة والناتج Cost-effect analyses.
إن التمويل الحسن هو الذي ينتج إنتاجاً حسناً. وليس معنى ذلك أولوية لمدخل واحد للتعليم دون غيره فلاشك أن بعض الظروف تقتضي العناية العظمى بتدريب المدرس وتعطيه الأولوية ولكن هناك اعتبارات أخرى وهي العناية بالمعدات وتكنولوجيا التعليم وهناك اعتبارات أخرى للعناية بالأمكنة والنشاطات الاجتماعية المواكبة للنشاطات التعليمية.
إن الحديث عن الإدارة الحسنة صحيح ليس فقط بالنسبة للتمويل الجماعي ولكن أيضاً بالنسبة للتمويل العام فقد لوحظ أن الإدارة السيئة في هذا التمويل هي سبب النقص في الموارد أو على الأصح هي سبب قصورها عن أداء مهمتها وكثيراً ما تحدث الناس عن تبذير التعليم.
إن الإدارة لم تعد فناً فحسب بل هي أيضاً علم من أهم علوم العصر.
ويبالغ بعضهم ويتخذ من الإدارة إيديولوجية فينادي بمبدأ اللامركزية باعتبار أن الإدارة المتصلة بالقواعد الشعبية والتي تقع تحت رقابتها لا تحقق فقط مبدأ من مبادئ الديموقراطية "المشاركة" ولكنها تحقق أيضاً مبدأ "الفاعلية" و"الكفاءة" وإن القواعد الشعبية تكون أكثر رغبة في المشاركة المادية إذا ترك للآباء ومجالسهم إدارة مرافق التعليم... بل إن البعض ينادي بأن تترك لكل مدرسة إدارة مواردها وهو ما يسمى بالاستقلال الذاتي والاعتماد على النفس.
المهم أن هذا جميعه ينعكس على كيفية إدارة الموارد وتوزيعها على الأقل بين مدخلات التعليم المختلفة وقد يكون لذلك الأثر في تمويل مراحل التعليم المختلفة.
وسيتصل بهذا مشاركة المتعلمين في تمويل التعليم بعد تخرجهم أو سداد أقساط ما صرف على الطلبة ويتصل بهذا ضرورة ارتباط الطالب بمعهده أو مكان تخرجه واستنفار القادرين في المجتمع لحل تمويل التعليم.
إن تمويل التعليم في الماضي، سواء في المجتمعات الإسلامية أو في المجتمعات الغربية كان يعود على الصدقات والأوقاف بمعناه الإسلامي أو غيره. وهذا مصدر من مصادر التمويل يمكن أن يكون مهماً في العصر الحديث.
وسيتصل بهذا الموضوع التمويل من القاعدة أما فرض الرسوم فإن ضريبة تعليم تفرض من أعلى قد لا تقابل بالرضا ولكن فرض رسوم معينة على مصالح محلية ومفروضة من مجمل المحليات تكون أكثر قبولاً.
إن نفقات الزكاة وهي ضريبة إسلامية ذات دخل كبير وقد جربتها بعض البلاد، فيجب أن يكون الإنفاق على التعليم من نفقات الزكاة.
خامساً : التمويل والتعاون الدولي
كما تقدم إن البنك الدولي لعب ولا يزال يلعب دوراً هاماً في تمويل التعليم في البلاد النامية، وهذا إلى جانب البحوث القيمة التي يصدرها والتقارير المختصة، فهو يمول عينياً أو مالياً الكثير من المشروعات وخصوصاً في إنشاء كليات المعلمين والتدريب، وإن تذبذب هذا التمويل بين المراحل المختلفة يجب أن ينظر إليه النظرة الموضوعية التي تلائم كل حال على حدة، وخصوصاً حالات الحد من الإصلاح الهيكلي وتأثير ذلك على التعليم والخدمات الاجتماعية الأخرى.
كما تجدر الإشادة بجهود اليونيسف وغيرها غير أننا ننادي بأن يصبح التعليم في معناه الجديد "التنمية البشرية" دافعاً لكل المؤسسات الدولية وخصوصاً الممولة منها أن تفيد التعليم بعداً من أبعاد التنمية وتخصص له اعتماداً معيناً.
ومن ناحية أخرى ننادي باتساع تطبيق SWAP وخصوصاً تشجيع المنظمات غير الحكومية للقيام بتخصيص نسبة من عائدها للإنفاق على التعليم. كذلك أن يفرض البنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى رسوماً أو ضرائب تلتزم بها الشركات الدولية وخصوصاً التي تعمل في المشاعات الدولية والتي تستثمر الفضاء الدولي الحر والذي هو ملك الإنسانية جميعها، هذه الشركات ودولها تستغل هذا المشاع الدولي لمقدرته في المال أو التكنولوجيا لذا يجب أن تدفع رسوماً عن ذلك يخصص للتعليم.
وأخيراً
لاحظنا أن اقتصاديات التعليم تدرس بأقسام الاقتصاد بالجامعات أو قد تدرس في معاهد التربية ولكن ينقص هذا الجهد المشاركة العملية والميدانية مما يجعل ضرورة إنشاء مراكز لاقتصاديات التعليم ويشترك في تمويلها الاقتصاديون ومتخصصو التربية ورجال التنمية والسياسيون
من منا لا ينظر الآن إلى شرق آسيا ليتعمق في تفسير التقدم الاقتصادي الذي تتميز به تلك البلاد الجديدة القديمة ؟ أهي أساليب الصناعة والهندسة الحديثة أم هي "القيم" التي سادت تراثهم..
إن التفسير الذي يتفق عليه الجميع الآن هو "الاهتمام بالتعليم". وقد أوردت صحيفة "الاقتصادي" The Economist في عدد 21 سبتمبر من عام 1996 المثل الآتي :
في عام 1960 لم يكن هناك فارق في الدخل القومي بين باكستان وكوريا الجنوبية، ولكن الفارق الكبير كان بين المسجلين في الدراسة فبينما نسبة المسجلين في التعليم الابتدائي في الباكستان 30 % من عدد الأطفال جميعاً، تجاوزت نسبة المسجلين هذه في كوريا الجنوبية إلى 94 % وفي نهاية الثمانينات تضاعف الدخل القومي في كوريا الجنوبية إلى ثلاث مرات الدخل القومي في الباكستان !
ومعنى هذا أن الاهتمام بتعليم جيل واحد (عشرين عاماً أو 30 عاماً) تسبب في مضاعفة الدخل ثلاث مرات.
ولكن الاستنتاج الثاني أن الإنفاق على التعليم الأساسي كان له أولوية في مرحلة معينة من تاريخ تطور الشعب...
ولكن "تايوان" وهي رفيقة كوريا الجنوبية في الدرب تحاول الآن أن ترفع نسبة التسجيل في جامعاتها وهو الآن 18 % فحسب إلى 30 % في عام 2000.
وهناك اتجاه عام بين "النمور" إلى إعطاء التعليم العالي أولوية في الإنفاق : ولهذا فإن نسبة 10 % من الحاصلين على الدكتوراه في الجامعات الأمريكية في الهندسة والعلوم قد حصل عليها أبناء "تايوان" و"الصين" وكوريا الجنوبية.
وفي إحصائية عن شريحة العمر 24-20 المسجلة في التعليم العالي كانت كوريا الجنوبية العاشرة وسنغافورة (11) وتايوان العشرين بين شعوب العالم.
وفي دراسة للبنك الدولي عن "معجزة شرق آسيا" أرجع الباحثون أسباب المعجزة الاقتصادية إلى أربع دعائم أولها "تكوين رأس المال البشري" موازياً لرأس المال العيني وهو "الإضافة" التي يتسبب فيها المهارات والمعارف أي التعليم.
ونعود من جديد لنقرأ في سجل "النمور الآسيوية" وهو يتحدث عن المعلم فيقول :
زTeachers enjoy considerable respect and prestige and relatively well paid, compared with their counterparts in the westس.
يأتي أخيراً السؤال : أي المواد تعطى الأولوية في الدراسة "الرياضة" و"العلوم" أم العلوم الإنسانية والاجتماعية... ونبادر بالقول إن الإسلام أعطى المكانة الأولى للعلماء وللعلم بمعناه الواسع الذي يشمل العلوم الاجتماعية ومنها التفقه في الدين، والعلوم البحتة والتي تشهد عليها آثار ابن سينا وغيره من علماء الإسلام.
ولكنا إذا عدنا لقصة النمور مرة أخيرة نجد أن تفوق الطلبة من الصين وكوريا الجـنوبيـة وتـايـوان فــاق الطلـبـة مــن بريطـانيـا والولايـات المتـحـدة، فـفي مـرجع (Source Education Services 1992) وصل تفوق الطلبة الصينيين في الرياضة إلى 80 % وفي العـلوم إلـى مـا يقـرب من 70 % وكانت هذه النـسبة في كـوريا الجـنوبية للـرياضة أكـثر مـن 70 % وللعلوم ما يقارب الـ 80 % وبالنسبة لتايوان كانت النسبة في الرياضة ما يعادل كوريا وأقل قليلاً بالنسبة للعلوم بينما تدنت النسبة لبريطانيا إلى أقل من 60 % للرياضة وأقل من 70 % للعلوم أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنها تدنت إلى أكثر قليلاً من 50 % للرياضة وأكثر قليلاً من 60 % بالنسبة للعلوم.
وهذا يدل على الدور الكبير الذي لعبته أولويات الإنفاق في الرياضة والعلوم في تقدم نمور آسيا.
وإذا انتقلنا الآن إلى "طرق التدريس" ومعنى التعلم اتضح لنا أن العودة إلى "النظام المعرفي" وإلى الحفظ عن ظهر قلب بدأت تطل برأسها من جديد ولكن ما مردود كل هذا إن لم يعط الاهتمام بالابتكار والتجديد، وإضافة للدور الأول في الإنفاق ؟
أقصد الإنفاق على مدخل جديد يؤكد ويرسخ دور الطلب في الابتكار والاستقلال والذاتية الثقافية.
والسؤال الثاني "أي المدخلات التعليمية" يعطى الأولوية ؟
في زمان تقدمت فيه تكنولوجية التعليم ودخل المجتمع العالمي "عالم المعلومات" على الصورة التي نعرفها والتي لم تعد تكنولوجيا التعليم عاملاً مساعداً للتعليم ولكنها وعن طريق "الكمبيوتر" ووسائل الاتصال المتعددة، أصبحت تكنولوجيا التعليم مصدراً من مصادر التعليم نفسه، فليس من شك أن مفهوم "الأمية" الذي كنا نعالجه متنقلين من الأبجدية والحساب إلى "الوظيفة" أو حتى "المفهوم الحضاري" هذا المفهوم قد تطور في عالم التكنولوجيا اليوم وأصبح من الممكن أن ننقل إلى "الأمي" شتى المعلومات بدون أن يقرأ أو أن يكتب والمهم أن "محو الأمية" الآن أصبح مفهوماً مختلفاً عن المفهوم التقليدي.
أقول رغم هذا الزمان التكنولوجي فإن "تحسين أحوال المعلم" قادم من مؤتمر مكتب التربية الدولي المخصص لتحسين أحوال المعلم اجتماعياً وروحياً وإعداداً وحتى أصبح المعلم ذلك المغير والمطور الاجتماعي أصبحنا مطالبين بأن نجعل منه "معلماً للمجتمع" وليس معلماً للفصل أو الشاشة أو التعليم عن بعد فحسب، وأن يعطى هذا المعلم تدريباً قبل وأثناء الخدمة.
أقول بغير تردد إن المعلم يجب أن يكون أولويتنا في الإنفاق وأن المدخلات الأخرى، سواء ثابتة أو متغيرة تأتي من بعده..
إنني لا أنكر أهمية "مدخل الإدارة" في عصر تكاد الإدارة أن تكون إيديولوجية من الإيديولوجيات التي عرفها التاريخ وأن دورها في ترشيد تكلفة التعليم، بل دورها في ديموقراطية التعليم ليس فحسب في إتاحته "للجميع" في مراحله الأساسية وفي إتاحته للقادرين والطالبين له في مرحلة التعليم العالي أقول إن "إدارة التعليم" وترشيدها تلعب دوراً آخر وهو أن تتحول "أجهزته" إلى المحليات، وإلى القواعد الشعبية وأن تحتفظ المراكز العليا بمقومات التوجيه والمراقبة والمستقبليات.
وبعد إذا دعونا لتمهين المعلم، ولانفتاحه على "الروحانيات" وأداء الرسالة الخلقية فإن هذا المعلم لا ينجح في مهمته إلا بإدارة رشيدة ولامركزية وقد تصل إلى أن تدير المدرسة العملية التعليمية في محيطها.
مصادر البحث
- Policy Paper for Change and Development in Higher Education, UNESCO
- The Role, Organization and Financing of Higher Education, Daniele Blondel
- Goals, Expectations and Realities for Young People : Issues for Education in the Twenty-First Century, by Philip Hughes
- Educational Quality and Effective Schooling, Ken Gannicott
- Constraints, Dangers and Challenges of the Twenty-First Century
- The Evolutionary Dynamics of Education Systems : Exposition on Institutional Development, by Roberto Carneiro
- Current Trends in Educational Reform, by Juan Carlos Tedesco
- Contemporary Information and Communication Technologies and Education, A. Hancock
- Education System in Sub-Saharan Africa : Diagnostic Elements and Recommendations, François Orivel
- Adult Education and Lifelong Learning : Issues, Concerns and Recommendations of the International Council for Adult Education (ICAE)
- From Plan to Market, World Development Report 1996
- Our Creative Diversity
- Learning : The Treasure Within
- Priorities and Strategies for Education, A World Bank Review
- World Summit for Social Development, Structural Adjustment in a Changing World
- Audience Africa, Social Development : Africa's Priorities, Final Report
- Worldwide Education Statistics, Enhancing Unesco's Role
- World Education Report
- Education and Work, by Olivier Bertrand
- The Financing of Education Systems, Serge Peano
- Basic Education in the Twenty-First Century, Victor M. Ordonez
- Adult Learning : A Key for the Twenty-First Century, UNESCO Conference
.1 كراسة مركز الدراسات الاستراتيجية، د. إسماعيل صبري عبد الله
.2 تمويل التعليم وتقنيات برمجة الموازنة، مكتب اليونسكو الإقليمي للوطن العربي
.3 الأهرام الاقتصادي، التعليم والخصخصة، د. سعيد إسماعيل علي
.4 مستقبل التعليم العالي، د. نبيل نوفل
.5 منتدى الفكر العربي