نشرة الأخبار

آخر المواضيع

الأحد، 27 مايو 2012

صمت القبور




نشر بملحق أشرعة الثقافي اليوم الأحد بجريدة الوطن

كلما ذكر الموت أمامه غير لغة الحوار، كان يعيش بين شهوة السهر فتى ضائعا دون هوية ، عمره عمر برعم صغير يذوب في زوابع الشتاء، ولد وحيدا لأم تحتضن السرير على قافلة المساء، لحظة ولادته تعالت صرخاته بين غوائل الدروب المزدحمة بالمارة، وعلى وجنتيه ترتسم ألوان من الدم، لا يذكر من عمره الذي يتبخر دون أن يدري سوى والدته ومنزل هو أشبه بفندق خمس نجمات يطل على بحيرات كثيرة، رغبته المحتدمة بداخله أن ينمو جسده سريعا ليعيش سكر الليل على صوت الرصاص بلحظة مضاجع الهوى، كلما غفى في ضجة النهار ايقظه شبح الموت فزعا لتعصف برأسه الأفكار من كل جانب، دائمًا كان يشعر بأنه مجرد شيء من لا شيء رغم أن كل شيء من حوله مضمخ بالجمال ولكن من كوة عينه تتراقص صور ومن مخيلة فكره الأصم تتلاطم الأفكار بأن الحياة أمامه كموكب مشتعلة بداخلها النار، يخيل إليه بأن جميع الأمهات في العالم سكين ملطخة بالدماء، حين علم بأن أمه قتلت أبيه، وان الماضي دنس من حوله تلبس فيه النساء قناع الطهر والعفاف يلتحفن برداء الخطيئة العمياء، كان يشتهي أن يفصل روح كل أنثى عن جسدها ويرميها كجيفة ليلتقطها دود الارض طعاما له، هكذا تبلورت كل الأفكار امام عينيه، حين يجد طيف الفراغ أمامه يذهب متواريا نحو ضفاف دجلة حاملا محبرته وأوراقه ليصب بداخلها اختناق الزحمة بأفكاره، رغم جمال منزله الذي يعيش فيه فهو يراه حالك الظلمة، ضوؤه كئيب معتق بالشهوات أصوات كأس الخمر تتهاوى في مسامعه، كم مرة تمنى ان ينسى ما يحيط به من أفكار ليذهب معهم ويزج نفسه بوسطهم فينسف ايام مريرة تعفر شبابه وتعكر صفو حياته، فيعيش جنون حياة مع الراقصات والغواني وكاسات الهوى ولكن جراح قلبه النازفة تمنعه فليس سوى طين أسر بدم والده تعصف بعقله لغة التدمير والانتقام حين يقف على ضفاف دجلة يشعر بأنه حبيس بداخل سور نينوى المطمور ، والده كان عربيا آشوريا بينما والدته كردية من بين الأكراد الذين كانوا لا يشكلون سوى 5? ، شاطئ دجلة هو فقط ما يريحه ويجعل رئتيه تمتلئ بالهواء، ان مرتادي منزلهم الذي حولته والدته إلى فندق وحانة للنزلاء أكسبه ثقافة سومرية ودين لاهوتي فكان يجيد اللغة السومرية كثيرا ما تخبط في جنون الدماء تطوق ذكرياته فيعصف الشر بداخله فلا يتريث عن قتل أم شوهاء قتلت والده في ليلة راقصة بحفلة آشورية بلحظة خفاء، فلم يمنعها قانون حمورابي من تنفيذ جريمتها سمع الكثير عن جمال روح ابيه وفكره وثقافته وعشقه للفلسفة والطبيعة حتى كاد البعض يظن بأنه نسخة من الملك آشوربانيبال ، حين يغمض عينيه يرى طيف والده يجثو أمامه وحين يغفو يبدأ سيناريو الأحلام وعلى عتبات عينيه يرى إنوما إليش ثائرة أمامه ومردوخ يتأجج جمرا برائحة الدم ووالدته مسدلة على كفن السكون في صمت دامي تزف نحو القبور بنيران الخطيئة دون ان يرثيها احد، انه كالمجنون اثقلته الحياة وأودى بدنياه السأم، توغل الظلمة غائرة بنقمتها تنسج خيوطها راقصة على جراح أيامه، لم يعد يملك من دنياه اي شيء كل آماله تلاشت تساوى ليله مع نهاره وكل لذة بدنياه تبخرت حين تسري بداخله رغبة الانتقام من امه التي قتلت ابيه فكان يتجرع كؤوسا افرغت اترعتها من لذة الدنيا أمامه حين هوت مدينة الأحزان بداخله حتى كهنة المعابد تصرخ مدوية برأسه، حاول ان يكون كآبسو السومري الذي خطط لإبادة النسل الجديد الا ان خطته هو تختلف في كونها ان يكون منتقما من كل امرأة تضع مولوها انثى حتى تنقرض جميع نساء العالم، لقد اصبح ذابلا شاحب الوجه مخنوق الإرادة غارقا في الأماني متلويا في دماء الخطيئة، قفز من سريره متجها نحو القبور يبحث من بينها عن قبر والده اين يكون ، أخذ بقدمه يسعى بين قبر وآخر تحيط به الظلمة بين صمت القبور، دون ان يجد عنوانا لقبر ابيه، كانت الظلمة يلتحفها صمت الموتى اكبر من نور عينيه، شعر بأنه موجة بلا شطآن وشارع دون أرصفة محاولا ان يستجمع من جسده مصباح ينير به دربه، وحين بدأ الضوء يسري من جسده وجد أمامه الأرصفة سوداء والأمواج عطشى يلفظها البحر، بقي هاجس الصمت مطبقا على شفاهه اليابسة مع لسان خرساء يود ان يطلقها ليسأل: من هو ؟ ومن ابيه ؟ وأين يكون؟. 
لقد تخبط ما بين الخيبة والجبن في زمن لا يملك منه اي هوية سوى أم بمنزل أشبه بفندق دعارة بشوارع منتصف الليل، حملته خطواته حتى باب البيت الى حيث العبث الذي يدرك وقف أمامها حين تغني أغانيها العتيقة في حانة منزلها وهي تحرك خصرها بخفة تتمايل وضحك السكارى الهاربين من الحياة بلا حياة ولا طعم يستساغ منها، لقد عصفت مدافع برأسه لحظة إصرار والدته على خطيئتها في دار مخيفة كالوباء، وبلحظة جرى على طاولة ملتقطا سكينا حين باغتها بطعنة اسقطتها أرضا ليلتقفها بين أحضانه فيغرق وجها غطاه عرق الرقص مختلطا بدمع ولدها حين باحت له بأسرار لم يكن يعرفها من قبل، بقيت بين أحضانه تصارع الموت بليلها الطويل في حانتها ومن حولها سكارى محنطين بسكون المكان حين أطبقت على جدرانه لغة الصمت في الظلام، شعر فقط في تلك اللحظة بمهجة آدمية أذابتها قسوة ابن لم يعلم عن حياتها شيئا كزهرة سقطت في حانة المخمورين لتداس بالأقدام وهي تذيع بين الصمت احزانها التي أخفتها سنوات من حياتها المرة لتستطيع ان تعيش كغمامة تسقي مهجة ولد لتتمكن من تربيته، لقد تغير لونها فأصبحت صفراء تسبح في دمائها وهو اصبح يغرق في بركة الدم تنظر إليه نظرة وداع مشوش بصدق الأمنيات لحظة ان وهبته عمرها وأحلامها والحب الذي يسري بخافقيها وبلحظة نامت اجفانها على أحضانه نومة أبدية، حملها بين ذراعيه يغسلها غسل ميت بدمع عينيه ، يغطيها الدم حين تكفنت به، ليدفنها في ليل يسري رويدا كما سرى هو بأحشائها تغذيه وتداويه، ليقطف من وجهها تذكرة من الحب يضيئها في ليل وحدته، طاف بها بين صمت القبور غارقا معها في بركة من الدم يعيش في حياته انسان مظلوم بظلم القدر، من ام كردية رقصت دنياها بدمع ولدها، لحظة ان كانت في مخدعها زهرة حمراء تضاجع انسانيتها الآثمة، لحظة ان ودعها طهر العفاف على جسدها يرتع السكارى وهي لا تعي القدر الذي لوثه ليل الصدى الذي يعانقها من خلاله نداء الخطايا في لحظات من السكون، فقد كان طريق الموت والنسيان بعيدا عنها، تعيش زمنا متخثرا بأبعاد قد تبدأ من عينها اليمنى قبل اليسرى فلا تشعر بسرعة الزمن المتغلغل المسافات لم تدرك سوى لحظة فناء قلبها حين اصبح الموت لها خلودا بعيدة عن الحياة فلم يعد يعتقها الظلام في خطوة راقصة بلحظة سكر وعربدة، وحين شعرت بأنامل وليد الأمس مصرة على اشتهاء رائحة الدم لتصطبغ لياليها الحالكات على جدران منزلها بلون احمر دون خجل كأنها أشباح قادمة من حلم كؤوس مورقة برائحة الخمرة في بحيرة من الدم لحظة الشعور بلذة آثمة، اما هو فما زال يبحث لها عن قبر يكرمها فيها بعيدا عن صمت القبور تلك لعلها تتطهر من ثمالتها كان ينظر الى وجهها الذي سرقه سكين الموت جاثية شفاهها في صمت عجيب كأنها مستلقية على ظهرها بين يديه والعينين ثاويتين، وكلما نظر اليها يهرمه الشوق ويهزمه الألم ففي مهجته نار أضرمت لن تنطفي حياته اصبحت بحيرة يعلوها الزبد أمواجها شهوة لذة آثمة، الدموع الغزيرة المتساقطة من عينيه تؤذي جفونه وتحرق أرجوحة الظلمة على جثة أم يطوف بها بين صمت قبور الموت، في لحظة ما شعر بأنه مدان يتمنى ان قانون حمورابي يطبق عليه عله يخرجه من الشعور بالذنب، وحين نامت في مثواها الاخير شعر بأن عمره رماد وانفاسه دخان تتصاعد يخيل أمامه جثث موتى دون أكفان، لم يعد يستطيع ان يغادر قبر والدته لقد رفت خلجات عينيه دمعا ينتحب، لم تعد له اذان لتصغي اليه، يسير مع الوجود قلقا وكأنه يتقلب على بركان لقد نزف كبده الأصم دماء صلبة يكابد فيها لحظات كبيرة من الحرمان جعلت حياته سحابة سوداء يعبث بشبابه الدهر اصبح كنهر اسود نهايته حلم حين علم انه مجهول النسب خرج من رحم الخطيئة ليس له اب يذكر او حتى يقتل حين وجدته امام سور منزلها طفلا بريئا بصراخه يناجي السماء والظلام مكشر انيابه يشتكي ليال ظلوم بساعة خلوة ختامها ندم عبثت بوالدته الطبيعة الغاضبة حين خيل لها بأنها زهرة حسناء يلهو بها القدر لقد تجرع من السنين الكفاية ومزق الزمان ستره يظل يبكي حين يذكر كفها فوق خده تداعبه بحنان وبقي مغلف ببقايا الصمت يذوبه اليأس من غضبه يكاد يكشف قبور الموتى الصامتة لعله يجد أمه التي أخرجته من رحم الخطيئة من بين تلك القبور ترقد في صمت.

بقلم :
السهاد البوسعيدية