نشرة الأخبار

آخر المواضيع

الاثنين، 4 يونيو 2012

بقلمي : جثمان ميت



لقد أعلن قلبي انسحابه عن معطفك المدنس برائحة التبغ التي ترتشفها بين لحظة وأخرى وباتت تضيق ذرعا منها شراشف نومك وقطع قمصانك وزهر حديقة منزلنا ومنازل الجيران بهولندا، بل حتى ماكينة الحلاقة وشفرتها الحادة باتت تصرخ من دخان سيجارك المنفوث الذي سرطن كل شيء في المكان قبل أن يسرطنك، حقيبة عملك وفنجان قهوتك بات مسرطنا وقلم سترتك جف حبره قبل أن يلامس ظهر الورقة يخُيل لي يوماً بأن ربطة عنقك التي تلبسها لو باستطاعتها الضغط على عرق رقبتك قبل أن يلوثها دخان غليونك لما تأخرت لعلك كنت سترحمها قبل أن ترحم نفسك، إنك أناني بطبعك لم تفكر بإنثى باعت كل شيء من أجلك وتبعتك حيث ذهبت فاعتبرتها كحذاء انتعلته قدميك لتدوس به الأرض التي امتزجت بترابها دمع عينيها تحت وطأة أنين الغربة، كنت أفكر بعلاقة إنسانية حقيقية عندما فكرت أن أرتبط بك، إن تعاقب الفصول الأربعة واختلاف الليل والنهار جعلت مني في غربتي أنا والهم توأمان، ليتني علمت قبلها بأن حبك لي نزوة كانت كفقاعة صابون أو زوبعة في فنجان من عابر يعشق النزوات وينتهي بإفلاس صحته قبل أن يفلس جيبه تحت أعقاب عود من السيجار، كان بإمكاني أن أتناسى كل شيء في لاهاي وأتنفس نسائم الحرية بين زهورها الهولندية ومنظرها الساحر وأعصف بكل قوانين حواء ومبادئ الإناث، ولكني أحببت نفسي وطهارتي قبل أن أحبك فكرهت أن تلامس جسدي نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد فاستحضرت بأني مسلمة تاجها دينها وسترها عفتها أمثل وطن شرقي سفيرة له في بلد غربي، فاخترت رائحة الكفن علني أتباهي به يوما بين صفوف الخلائق أتربع به تحت ظل عرش الرحمن فأتخذت من غرفتي سقفا هربا من دخان سيجارك الجاثم دون رحمة على أنفاسي خوفا من أن يطال ما أحمله بداخل أحشائي، رغم جمال لاهاي وجاذبيتها الساحرة الخلابة لفظت أنفاسي قبل أوانها وأنا متعطشة لنخل عروبتي وتمر بلدي وماء قريتي الزلال الذي لا يروي ظمأي سواه، فكان حزني ملتحفا بكفني وكم تمنيت أن يكون كفني معطرا برائحة الطهر بعيدا عن غليون تبغك وأعقاب سيجارك في نعش خفيف لا يشعر بحمله أحد، لقد صفق إبليس بعد طول غواية لكثير مثلك استحموا بخمرهم حتى الثمالة ونفثوا دخان السيجار حتى باعوا مبادئهم بدخولهم أقرب حانة ففصلوا العقل بعيدا عن الروح وعندما تفصل بين عقلك وروحك لا أخالك سوى شخص ميت، كم مرة في ليلتك أيقظتك صوت الكحة وهي تمزق جدران رئتي فتنزف دما يثعب من رئتي على غير دمي المعتاد الذي كان يسري بجسدي ووريدي؟ هل سمعت يوماً بأحاديث الأبواب؟ أما سمعتها وهي تناديك بتوسلاتها الباردة شتاء المشتعلة صيفا بأن ترحمني من حرقة أنفاسي المسمومة بدخانك الملوث بنيكوتين التبغ، لقد سئمت من رائحة التبغ وأنت ممسك بمقبضها فتحاملت الأبواب على نفسها ولم تحتمل أن أدخل منها مسرطنة الدم لأخرج منها جثمان ميت مطوي على كفن تغطيه رائحة السيجار حين يهال عليه التراب فبكت الأبواب قبل بكائي لقد أصابتني شيخوخة الروح والجسد قبل أواني فعانت روحي من ظلم الغربة والشيخوخة معاً، مما أصابني وهن الغربة ألما على ألمي فلا ينفع معه دواء سوى بكاء الأطفال في حي ترانسفال ومورفايك وضحكات أطفال آخرين في منتزه مادورودام وغابة لاهاي بجوار"قصر هاوس تن بوس" الملكي، فاغوص بفكري في عالم واحد متناقض من الفقر والثراء تضمهم مدينة واحدة فينام أحدهم شبعانا بينما الآخر يتلوى جوعا بين أحياء لاهاي الفقيرة، فتزيد معاناتي حين أراهم تحت أعتاب فقر الجوع يبحثون عن كسرة الخبز بين صناديق القمامة وأنت تحرق نقودك بنار السيجار ودخانها المنفوث في الهواء الطلق فيزداد هؤلاء الأطفال بؤسا على بؤسهم فالمرض والفقر سكن بداخلهم مع نيكوتين سيجارك الذي سرطن دمهم بعد أن لوثه دخانك المنفوث منها مستكثرة عليهم الحياة هواء نقيا وبيئة نظيفة يلعبون فيها بحرية فأعيش مع غربتي مغلفة أحزاني وسط بركة هوف فايفر أحاول كتابة مذكراتي علني أجد فيها ما يغطي حنين غربتي فتسكن آلامي كصداع تسكنه حبة بنادول بعد فترة وجيزة إن أعواد سيجارتك المتراكمة التي وضعتها في الطفاية والدخان المنفوث لا يشفع لك لقد خالط دخان سجائرك رائحة القهوة في الفنجان وعطر قميصك فلم أعد أميز ما بين رائحة العطر ورائحة القهوة لقد امتزجت الرائحة المميزة مع رائحة السيجار فشوهة كل رائحة جميلة. حتى جمال وجهك ذي العشرين ربيعا أصبح شيخا طاعنا في السن عندما أنظر إليه بعد أن دنسه نيكوتين السيجار وشوهه. إنني سئمت تلك العادة اليومية التي أعيشها في أفق مدينة لاهاي الهولندية حينما كنت أجلس على شرفة شقتي استنشق هواء واستمتع بعذوبة صوت فيروز استرجع من خلالها ذكريات بلدي وفصاحة لغتي العربية لأنسى الشعور بالغربة فإذا بدخان السيجار يسمم ذلك الهواء الذي استنشقه فيكتم أنفاسي، حينها خيل لي طائر يرافق جثمان ميت من بلد غربي إلى بلد عربي باحثا عن نسائم حريته ولكنه لم يجدها رغم جناحيه التي يصفق بهما في الهواء، تعبت من سكون الليل في وحدتي تلك ومن صوت الذكريات في بلدي لحظة عزلتي، تعبت من غبار الزمن حين أقلب فكري في زحام الشوارع وأزقة الطرقات. إنني أتوسد أنين الغربة وألتحف بوجع الألم وأنت تنفث سموم دخانك من عود إلى آخر كلما إنتهت علبة فتحت علبة أخرى. إنني أشعر بأن دمي أصبح مسرطن بدخان سجائرك وسحر لاهاي أصبح مظلما بالنسبة لي رغم جمال أزهارها الهولندية الملونة حتى طفلي الذي تمنيت أن أراه يؤنس وحدتي في هذه الدنيا لم يكمل شهره التاسع حين حملته وضاع مع بقية الأجنة التي ضاعت من رحم أمهاتها ملوثاً بتسمم الدخان. لقد نزفت شراييني دماء سوداء اختلطت مع بكاء قلمي الذي أكتب به خواطري في الغربة. إنني غارقة في الموشحات الأندلسية التي تغنى بأصوات فيروز ونفحات أحرف الأبجديات العربية ومع هذا لم أعد أميز ما بين الظلمة والسكون والصمت حتى كرهت الليل الذي يلبس ثوب النهار لأنه يغطي فضائحك فحملتني الغربة إلى بلدي بدخانك السلبي كطائر يحمل جثمان ميت في وضح النهار.




السُهاد البوسعيدية


نشر في جريدة الوطن ملحق أشرعة الثقافي يوم الأحد 3/6/2012